تواصل الحكومة الفرنسية، التي تعمل تحت مجهر الرئيس إيمانويل ماكرون وبتوصياته، تنفيذ مشاريعها الاقتصادية اليمينية التي تسميها "إصلاحات" والاستعداد للاستحقاقات الانتخابية، خصوصاً الأوروبية، سنة 2019، وأيضاً على مسار الإصلاح الدستوري. يحصل ذلك، على الرغم من بعض المتاعب التي تعرفها، حالياً، حكومة إدوار فيليب، سواء تعلّق الأمر بتهم الاغتصاب والتحرش التي تستهدف وزيرين مهمّيْن في الحكومة، وهما جيرالد دارمانين ونيكولا هولو، أو بالتنازل عن تشييد مطار جديد في "نوتردام دي-لاند"، وهو ما اعتبره الكثيرون، سواء في اليمين أو اليسار، هزيمة كبيرة للسلطة السياسية واستسلاماً لعصابات لا تحترم هيبة القانون. وقد عرفت محنة الوزيرَين تضامناً سريعاً من الحكومة، مع تجديد الثقة بهما من قبل رئيس الحكومة.
وفيما يخص الإصلاح الدستوري العزيز على قلب ماكرون، الذي وعد بإنجازه في صيف 2018، والذي يحرص، من خلاله، على طبع ولايته الرئاسية بإصلاحات دستورية كما فعل الكثيرون من سابقيه، فإنه يعرف أن الأمر لن يكون سهلاً، كما الإصلاحات الأخرى، التي كانت فيها الغَلَبة لأغلبيته الرئاسية المريحة، وذلك بسبب إفلات مجلس الشيوخ من قبضته، وبسبب شخصية رئيسه، جيرار لارشي، العنيدة. وتتلخص التعديلات التي يريدها الرئيس في إلغاء محكمة عدل الجمهورية، والامتيازات التي تمنح لرؤساء الجمهورية السابقين، خصوصاً ما يتعلق بعضويتهم في المجلس الدستوري، وإصلاح المجلس الأعلى للقضاء، وأيضاً تحديث المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهي مقترحات تحظى بتوافق كبير بين مختلف النواب. ولكن ما يرفضه قطاع عريض من النواب، يتعلق بمقترحات ماكرون حول خفض عدد البرلمانيين بنسبة الثلث، وتحديد الولاية لدى النواب والمنتخبين في ثلاث ولايات متتابعة كحدّ أقصى.
ويراهن الرئيس من أجل فرض هذه الإصلاحات في الحصول على أغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المعبَّر عنها من قبل نواب مجلسي الشيوخ والبرلمان. وإلا فإنه في حالة استمرار المعارضة، التي لا يزال يبديها اليمين، المسيطر على مجلس الشيوخ، من خلال إدخال 40 مقترحاً وتعديلاً على المقترحات الرئاسية، سيلجأ ماكرون إلى إجراء استفتاء شعبي، وهو ما لجأ إليه، من قبل، الرئيس شارل ديغول، بنجاح. وفيما يخص الانتخابات الأوروبية، فإن ماكرون وحركته "الجمهورية إلى الأمام" يراهنان على الانتخابات الأوروبية (79 مقعداً)، لأنها انتخابات وطنية، وليست مثل الانتخابات البلدية، التي تعتمد الأحزاب السياسية فيها على انغراسها القديم في التربة وعلى الولاءات التي تساهم في استمرار نفوذها في المناطق، وهو ليس حال حركة الرئيس الفرنسي، حديثة العهد، إذا استثنينا بعض الحالات التي قرر فيها أصحابها مغادرة الأحزاب التقليدية ("الاشتراكي" و"الجمهوريون") أو تجميد عضويتهم، والعمل داخل الأغلبية الرئاسية، كما هو حال وزيري الداخلية، جيرار كولومب، والخارجية جان إيف لودريان. وستكون الانتخابات الأوروبية فرصة لحركة ماكرون للاستفادة من هالة الرئيس الأوروبية ومن الشعبية التي يحظى بها في أوروبا، لدرجة أن البريطانيين يعتبرون أنه قاطرة الاتحاد الأوروبي، في ظل شبه غياب للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بسبب مشاكلها السياسية الداخلية. وستساعد هذه الدينامية الرئاسية، التي لم يكن لها أن تعمل بشكل كبير أثناء انتخابات مجلس الشيوخ، على إيصال الكثير من النواب إلى البرلمان الأوروبي.
ويراهن الرئيس ومستشاروه على أن تساهم الانتخابات الأوروبية في الإجهاز، بشكل أكبر، على ما تبقّى من قلاع حزب "الجمهوريون"، الذي استطاع رئيسه الجديد، لوران فوكييه، برغبة منه أو من دون رغبة، التخلص من كل القياديين، الذين يحظون بشعبية واحترام لدى اليمين، مُحيطاً نفسه بمستشارين، على رأسهم صاحبة المواقف العنصرية، نادين مورانو، التي تطالب بفرنسا "بيضاء ومسيحية"، مستعينة بجملة لديغول ضمَّنَها في مذكراته، والإجهاز أيضاً على ما تبقّى من الحزب الاشتراكي، الذي هو، أصلاً، في وضعية مثيرة للرثاء، في أفق انتخاب قيادته الجديدة، من بين مرشحين من أنصار الرئيس السابق، فرانسوا هولاند، الذي ترك هذا الحزب من دون أموال، واضطُرَّ لبيع مقره الرئيسي في المقاطعة الباريسية السابعة.
وإذا كان ماكرون استطاع، قبيل الانتخابات التشريعية، استمالة العديد من الوجوه اليسارية واليمينية، تحت شعاره "لا يمين ولا يسار"، أو "هما، معاً"، فليس من المستغرب أن تكون غلّته كبيرة في هذه الانتخابات، خصوصاً من اليمين. فرئيس الحكومة اليميني الأسبق والقائد في "الجمهوريون"، ألان جوبيه، في غزَل متواصل مع ماكرون، ولا يُخفي تقارباً بينهما، خصوصاً أن إدوار فيليب، من أتباعه، كما أنه يرتبط بعلاقات وثيقة مع فرانسوا بايرو، حليف ماكرون. وليس ألان جوبيه وحده، في مثل هذا الوضع، فالمواقف السلبية والتشكيكية لفوكييه بالاتحاد الأوروبي، جعلت الكثير من رفاقه، يشهرون الورقة الحمراء في وجهه، ومنهم فرانسوا كوبيه، وكزافيي برتران، وفاليري بيكريس، وجان بيير رافاران، وآخرون، وهو ما يعني أنهم لن يدافعوا عن سياسة حزبهم الرسمية، في ظل مواقف رئيس الحزب، وبالتالي فهم يقتربون أكثر فأكثر من ماكرون ومن سياساته تجاه الاتحاد الأوروبي. ويراهن ماكرون، أخيراً، على أن تكون الانتخابات الأوروبية، التي سيجرّب فيها بشكل واسع، نظريته، التي تقول بأن أوروبا، ليست قضية يسار ولا يمين، مبشّرةً بنجاحات واختراقات أخرى مقبلة في الانتخابات البلدية، التي لا يخفي مستشارون في الإليزيه رغبتهم بتأجيلها إلى سنة 2021، بعد أن كانت مقررة في ربيع 2020، وبالتالي، تنظيمها في نفس الوقت مع انتخابات أخرى تتعلق بالجهات والمناطق، أي بعد أن تكون قد اختمرت التحالفات ونضجت، وهو ما سيجعل من كل فوز انتخابي في هذه المرحلة، دافعاً وفألاً حسناً لعودة مظفرة لماكرون في رئاسيات 2022.