انطلاق مسار السلام أمس، الذي يُفترض أن يفضي إلى حكومة جديدة، يمنح فرصة جديدة لإنهاء النزاعات في الدولة الوليدة، غير أن عقبات كثيرة لا تزال تقف في طريق وصوله إلى خاتمة سعيدة، ولا سيما الترتيبات الأمنية المطلوبة، وأبرزها تشكيل جيش موحّد، إضافة إلى بروز خلافات بين حركات مسلحة لم تتفق على اسم ليكون نائباً خامساً للرئيس الجنوبي. يقابل ذلك محفزات قد تلزم سلفاكير ومشار بالتزام الاتفاق، ولا سيما مع معاناة الدولة الجنوبية من أزمة مالية خانقة، والتوقعات بأن يسهّل السلام مسار التعاون الاقتصادي مع الخرطوم، بما لذلك من تبعات اقتصادية إيجابية، إضافة إلى الضغوط الإقليمية والدولية على الزعيمين المهددين بعقوبات جديدة.
وأدى مشار، أمس السبت، اليمين الدستورية نائباً أول للرئيس سلفاكير ميارديت، في حفل بحضور زعماء أفارقة، من بينهم رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، والرئيس الأوغندي يوري موسفيني، ليطلق ذلك مسار تنفيذ اتفاق السلام والترتيبات الأمنية المصاحبة له، ومن أولى الأولويات تشكيل مجلس وزراء جديد يفترض أن تتقاسمه الحكومة والمعارضة.
وجاءت عودة مشار إلى المنصب، بموجب توافق بينه وسلفاكير، استند إلى الاتفاق الموقّع بين حكومة جنوب السودان، والحركة الشعبية المعارضة التي يتزعمها مشار، والتي قادت تمرداً في البلاد عام 2013 أدى حسب منظمات دولية إلى مقتل ما لا يقل عن 400 ألف شخص وتشريد أكثر من مليونين، وأدى النزاع إلى نقص حاد في الغذاء، مع تحذير وكالات تابعة للأمم المتحدة من أن نحو أكثر من ستة ملايين شخص قد يواجهون مجاعة حادة في الفترة المقبلة.
وانزلق جنوب السودان نحو الحرب الأهلية عام 2013 نتيجةً لخلاف بين سلفاكير ونائبه مشار، بعد إعفاء الأخير من منصبه. واستمر الصراع الدموي لمدة سنتين، تدخلت بعدها منظمة التنمية الحكومية الأفريقية المعروفة اختصاراً بـ"إيقاد"، لتنجح في جمع الرجلين في اتفاق سلام، عاد بموجبه مشار إلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، وذلك في عام 2016. لكن الاتفاق لم يصمد سوى أشهر قليلة، بعد تعرض مشار لمحاولة اغتيال وهو داخل القصر الرئاسي، نجح بعدها في الهروب من جوبا، وقيادة عمليات عسكرية جديدة. وفي إحدى زياراته لجنوب أفريقيا، فُرضت على مشار الإقامة الجبرية التي استمرت عامين.
في منتصف عام 2018، قاد الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، ووزير خارجيته الدرديري محمد أحمد، وساطة مرة أخرى، استمرت مفاوضاتها في الخرطوم أشهراً، حتى تمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق سلام جديد، رعاه البشير ومعه الرئيس الأوغندي يوري موسفيني، وأُوقفت الحرب. لكن تنفيذ الاتفاق في شقّه السياسي تعرض لعقبات عديدة، أبرزها عدم التوافق على عدد ولايات جنوب السودان، وعمليات الدمج بين الجيش الحكومي وجيش المعارضة، عدا انشغال البشير بالثورة التي أطاحته في إبريل/نيسان 2019.
خلال الأشهر الماضية، عاد السودان وأوغندا لتحريك الجمود في العملية السياسية في جنوب السودان، ولا سيما بعد وصول مشار إلى عاصمة جنوب السودان جوبا، ودخوله في تفاوض مباشر مع خصمه سلفاكير بإشراف الخرطوم، فطوت الأطراف آخر صفحات الخلاف بموافقة الرئيس الجنوبي على العودة إلى نظام الولايات الـ10 بدلاً من 32 ولاية. وقبل أيام، صدر قرار بتعيين مشار نائباً أول للرئيس، مع تعيين ثلاثة نواب آخرين للرئيس، هم جيمس واني إيقا، وتعبان دينق، وريبيكا نيانديق، أرملة الأب الروحي لدولة جنوب السودان، الراحل جون قرنق، ومع احتفاظ سلفاكير بمنصب رئيس الجمهورية.
وتعليقاً على هذا التطور، رأى المحلل السياسي المتخصص في شؤون دولة جنوب السودان، المثنى عبد القادر، أن ما جرى التوصل إليه يُعَدّ بمثابة اختراق كبير في اتفاق السلام، بعد تنازلات من الطرفين الرئيسيين، خصوصاً تلك المتعلقة بعدد الولايات التي ظلت عقدة جميع الأطراف. وأشار عبد القادر في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أنه "على الرغم من تنازلات سلفاكير ومشار لتحقيق الوفاق فيها، لكن أنصار الطرفين ما زالوا يعتبرون الخطوة ضد كل منهما، ما يجعل الاتفاق على التنازل غير مسنود بتوافق من الجميع، ويهدد طريق الحكومة الانتقالية الجديدة".
وأشار عبد القادر إلى أداء مشار اليمين الدستورية للمرة الثالثة لتولي منصب النائب الأول للرئيس منذ نيل جنوب السودان استقلاله في 2011، متوقعاً أن تلقى الخطوة ترحيباً من المجتمع الدولي والإقليمي، لكنه حذر من العقبات التي قد تطرأ على تنفيذ ملف الترتيبات الأمنية المعلق، خصوصاً بند جمع القوات المختلفة في معسكر واحد لتشكيل جيش وجهاز أمن وشرطة موحدَين، وكذلك ملف حركات مسلحة أخرى تتحالف تحت مسمى "تحالف سوا" التي لم تنجح في التوافق على تسمية النائب الخامس لرئيس الجمهورية، وهو منصب مخصص لها، بحسب ما نصت عليه اتفاقية السلام، وذلك بسبب الانشقاقات بينها. و"تحالف سوا" يُعَدّ تحالفاً مهماً يضم ثماني حركات مسلحة وأحزاب سياسية.
ولفت عبد القادر إلى أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لن يكونا راضيين عن أي تأخر جديد في تشكيل الحكومة بعد التهديد والعقوبات التي تلوّح بها واشنطن في حق قادة جنوب السودان، لافتاً إلى تحدٍّ آخر مهم هو الأزمة المالية في جنوب السودان التي قد تؤدي إلى عدم التمكّن من دفع مرتبات الجهات التابعة للحكومة الانتقالية الجديدة، مع العلم أن الحكومة السابقة لم تدفع مرتبات منذ أكثر من ثمانية أشهر، سواء للجنود أو لموظفي القطاع العام.
من جهته، رأى الصحافي من جنوب السودان، مايكل أتيت، أن تنصيب الحكومة الانتقالية يمثّل خطوة مهمة لشعب الجنوب الذي انتظرها لفترة طويلة جداً، ولا سيما مع التأجيل المستمر لها حتى وصل المواطن الجنوبي إلى مرحلة الاستياء. ولفت في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن البلاد ستواجه في المرحلة المقبلة تحديات أخرى مهمة أولها تشكيل مجلس الوزراء بطريقة ترضي كل الأطراف، مؤكداً أن اكتمال تنفيذ اتفاق السلام وتجاوز العقبات والمطبات سيتركان أثراً على كل دول الإقليم، بما في ذلك دول شرق أفريقيا والسودان على وجه التحديد.
وأوضح أتيت أن أكبر تحدٍّ بالنسبة إلى الاتفاقية، هو بناء جيش قومي موحد في دولة جنوب السودان، ليس عبر خطوة التدريب الموحّد، بل عبر توعية أفراد الجيش الجديد ودمجهم مع بعض حتى يتمكّنوا من تجاوز مرارات حرب السنوات الماضية. أما التحدي الآخر بالنسبة إليه، فهو التنمية وبناء الطرق وفتح المدارس وإعادة النازحين واللاجئين الذين شردتهم الحرب، وإتاحة الحريات العامة في البلاد وتهيئة المناخ لقيام أول انتخابات عامة في دولة جنوب السودان منذ استقلالها في عام 2011.
من جهته، رأى المحلل السياسي السوداني، محمد عبد العزيز مصطفى، أن تطورات السلام في جنوب السودان وتوسط الخرطوم فيها ستساهم في المقابل بتعجيل نتائج المفاوضات السودانية - السودانية التي ترعاها جوبا بين الحكومة وحركات الكفاح المسلح في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، لم تمتلكه من علاقات طيبة مع غالبية الحركات هناك.
ورأى مصطفى، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن تجربة انفصال الجنوب في السنوات السابقة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك استمرار حاجة كل من البلدين للآخر، سواء في ما يتعلق بتحقيق السلام أو التكامل الاقتصادي. ولم يستبعد المحلل السياسي السوداني أن يؤدي السلام الحالي إلى تطورات اقتصادية إيجابية في البلدين بانسياب النفط الجنوبي بصورة أكبر عبر الموانئ السودانية، بعد إعادة تشغيل عدد من الحقول المتوقفة في الجنوب بسبب الحرب، ما سيوفر لخزينة كل دولة ملايين الدولارات.