تردّد المخرج السوري فراس فياض في الدخول إلى المعرض الذي يحكي سورية الحضارة، وسورية الدمار.
شاشات كبيرة، ومنصات تعرض قطعاً أثرية مستعارة من متاحف عالمية، وروائح عطور شامية، ووجوه آلاف البشر، وحكايات مبتورة. محفوف كل هذا بصوت خفيض لعود العازف الحلبي قدري دلال.
كان ذلك في مارس/ آذار الماضي، في ملتقى قمرة السينمائي بالدوحة. كان فياض منخرطاً في فيلمه الجديد "الكهف"، الذي يرصد سيرة مستشفى تحت الأرض في الغوطة، أدارته مع زملائها الطبيبة أماني بلور، وصولاً إلى دخول الفيلم القائمة القصيرة المرشحة لجوائز الأوسكار للعام الجاري.
ما بين فيلم "آخر الرجال في حلب" (2017) إلى فيلمه الأخير "الكهف"، ظلت هواجس فراس فياض ذاتها. إنه يسعى إلى عدم التضحية، بالضحية وشاهد العيان والسينما، من حلب إلى الغوطة.
بقي فراس بعيداً عن طابور الزائرين، الذين يؤمون معرض "سورية سلاماً". إن لديه رصيداً من المواد التوثيقية بلغ 450 ساعة تصوير، استخرج منها فيلمه الشهير "آخر الرجال في حلب"، أي أنه عايَش الموت، والخوف من الموت، والنيران المجنونة، والدمار، وفرص النجاة الشحيحة.
يقول إن الرعب يطاوله حتى حين يقف أمام مطعم، تأسس ضمن المطاعم الشامية في العالم عقب المجزرة الممتدة منذ 2011.
الأنفاس والعيون ليست لمهاجرين دفعتهم الرغبة في تجربة حظهم، وخيارهم في البحث عن فرص استثمار جديدة كما فعل أجدادنا حين هاجروا إلى أميركا اللاتينية. الآن، هذا المطعم الذي يدعوك لتذوق أطباقه، بمعنى آخر ينتمي للناجين، وبعض زبائنه ناجون. أي أنك تتناول طعاماً خرج بعنف من سياقه.
في المطبخ السينمائي، يقول إن لديه- كما يمكن أن يكون لدى عموم الناجين- إحساساً بالذنب.
"ما الذي أفعله؟ لماذا أصور مكاني الذي أحفظه شبراً شبراً؟ إنني ألاحق آلام الناس وبحثهم عن النجاة، وخسارتهم الحياة بسهولة".
قد ينجح في فيلمه الجديد كما حالف النجاح فيلم "آخر الرجال في حلب". ومن المتوقع أن يطاوله الهجوم، أو القراءة "الثقافية" والسياسية السطحية. هذه القراءة التي قال إنها واجهت فيلمه السابق.
في رأيه، إن السينمائي ليست وظيفته الدعاية لثقافة ما، أو سياسة ما، بل تقديم تجربة شعورية منفتحة، وفتح باب للنقاش، والحذر من إعطاء حقائق ثابتة.
في فيلم "آخر الرجال في حلب" الذي نال الجوائز أكثر من أي فيلم سوري آخر، وترشح لجائزة الأوسكار عام 2018، يبرز المخرج التناقض الطبيعي في الشخصيات التي تعيش تجربة استثنائية، وهي الصراع من أجل البقاء، والصراع الذاتي داخل الإنسان نفسه، بين خياري الهرب من الجحيم، والإصرار على ملازمة المدينة.
للمخرج أقارب، وشقيقة مكثت مع زوجها في حصار حلب. ولأي مصور أو حتى كاميرا شارع تسجيل اليوميات. وهو بهذا المنحى واقع يسجل ويوثق، وواقع يصوغه المخرج.
بدأت كاميرات فراس فياض تأخذ طريقها إلى خالد حرح ورفاقه من متطوعي الدفاع المدني، لتصوغ الفيلم بعد مئات الساعات التصويرية.
يؤمن فياض بمقولة سينمائيي الموجة الفرنسية الجديدة التي تفيد بأن الفيلم مرحلتان أساسيتان: الفكرة والمونتاج.
ماذا يريد المخرج من خالد حرح أن يقول؟ لا شيء سوى أن يعيش كما هو. رجل متزوج لديه طفلتان، تظهران كثيراً معه كما لو أنهما صديقتان له. يدخن كثيراً، يغني، يسخر، يلعب الكرة على سبيل المزاح، يشتري أسماك زينة، ويؤسس لها حوضاً صغيراً في الحوش.
وهو ذاته من يفكر بالخروج من حلب، التي يضيق عليها الخناق، لكنه كأسماكه ليست لديه القدرة على العيش خارج مكانه، حتى خارج الموت الأليف.
لخالد الكثير من الصور والفيديوهات التي يظهر فيها وهو يخرج أحياء من تحت الأنقاض، تحديداً صورة الطفلة الرضيعة.
طوال الفيلم، لا يظهر الناس متحدثين إلى صناع فيلم وثائقي. الكاميرات الصغيرة التي كانت تصور، بدت كأنها غير موجودة.
وخلال مدة طويلة من التصوير بين عامي 2015 و2016، يصبح ظهور المصور في المشهد مألوفاً. إنه لا يثير الحساسية بهذه الكاميرا الصغيرة، بحجم الموبايل.
"تتحول الكاميرا إلى ديكور وتتحول أنت إلى فرد من العائلة. وجزء من سلوكك أنك دائماً تحمل كاميرا، مثلما يحمل شخص عكازاً، لا أحد يسأله لماذا يحملها؟". يشرح فياض.
استطاع المخرج إذن تحديد ما يريد. تبدو المشاهد كأنها مصورة من أسفل إلى أعلى. كأن الولد فراس يصور أباه المنقذ المدني. إن صورة الأب، أصيل قرية صغيرة جداً بين ريفي حلب وإدلب، والذي درس في الجامعة الأميركية، ظلت تقود بخفية طريق الفيلم. المونتاج قال كلمته الأخيرة. إن الفيلم مصور في اللاوعي بعين طفل.
بيد أن فراس فياض، وبالتحديد مع الأوسكار، التي لها شهرتها العالمية ولعنتها، بدأ يواجه حملة دفاعية عن فيلمه.
من هؤلاء الذين يظهرون بوصفهم بعض "آخر الرجال في حلب"؟
يجيب فياض بأن الفيلم ليس بورتريه للدفاع المدني، الذين سمي عناصره بـ"الخوذ البيض"، بل حكاية ناس وجدوا أنفسهم أمام عدد هائل من الجثث يصعب دفنها، وأحياء تسمع أصواتهم، فانخرطوا في الإنقاذ. الحرب دفعتهم إلى أن يفعلوا شيئاً ما.
فهذا محمود، رفيق خالد، طالب فلسفة، وجد نفسه أمام مشهد فاصل. كان البشر يتفرجون على سيارة مقصوفة تشتعل، وفيها طفل يحترق شيئاً فشيئاً، عاجزين عن مد يد المساعدة.
ومبدياً أسفه، يقول إن الفيلم لم يتعرض للتشويه من إعلام النظام السوري فقط، ومنعه في دول عربية، القراءة التنميطية يمكن العثور لدى البعض القائلين "نحن أولاد ثورة. (وهؤلاء هم الأسوأ) اصدقنا القول. ألم يحمل خالد ورفاقه السلاح، ويحاربوا؟".
ويضيف أن هذا تشكيك بمصداقيتك بوصفك صانع أفلام، وهذا مؤلم على الصعيد الشخصي، كما أنه قراءة مسبقة لفيلم لم يشاهد غالباً في المنصات العربية. الأهم من كل هذا أن "آخر الرجال في حلب" ليس فيه ما يشير إلى دعاية لطرف أو توجه. وإذا كان ثمة انحياز، فهو فقط في الموت، كموت الأطفال. "هذه حقيقة لا يمكنني اللعب فيها، وادعاء الحيادية تجاهها".
في هذا الخضم، يشير فياض إلى أن هناك استسهالاً في إطلاق النعوت على من لا يعجبك، فتجعله إرهابياً، أو موالياً للنظام، أو ممولاً من هذا البلد أو ذاك.
الشخصية الرئيسية، خالد حرح، أب سارد للقصص. السرد يوفر حماية لطفلتيه من مشاهدة الجحيم. استطاع خالد حمايتهما بتوفير عالم خيالي. إنهما تحتاجان الأب طوال الوقت لسرد المزيد من القصص، وتلاحقانه بالرسائل الصوتية على هاتفه، وهو في الأثناء يخرج أطفالاً من تحت الأنقاض. وحين يفرغ من مهمته يبدأ في الرد على الرسائل، وبذل الوعود بالعودة قريباً.
لم يعد خالد أخيراً. قصفت المكان قذيفة مدفعية من قوات النظام. ولم يطمئن على العائلة التي بعد رحيله، استقبلت زائراً جديداً. كانت زوجته حبلى بولد، أسمته خالد.
من يتابع الفيلم يحدس بأن مصير شاب أعزل، مغامر، سيكون الموت. مع ذلك، لا يبني الفيلم ذاته على المشهد المحزن، وخالد يُغسل بالماء ويُلف بالكفن. هذه ذروة عاطفية هامة، لكن القصة تكتسي عمقها من المثابرة في البقاء، والضحك، وكؤوس الشاي التي تتناولها الأيدي، وتسرية الوقت، وتأجيل الكابوس بالحلم والوهم.
كان يمكن لخالد أن ينجو بعائلته، أو لا ينجو بمصادفة ما على طريق الهرب. يظهر في أحد المشاهد وهو يتحدث مع شخص عن اتفاق للخروج. ثم يظهر طوال الوقت وهو عاجز عن مغادرة مشهد مرعب، يمكنه فيه تقديم شيء يسير. ثم، وربما العجز الكلي عن تساوي الخيارات.
هذه الفوضى التي يسببها العصف بمكان وبنفوس البشر، هو ما أراده الفيلم.
يقول فراس فياض إن "خالد كان بسيطاً وواضحاً. يريد العيش الآمن والسعيد لطفلتيه". يضحك ضحكة صغيرة ويضيف: "أجانب قالوا لي إنك جعلتنا نحب هؤلاء البشر من تلك الثقافة. هذه ليست نيتي. لا أريد إثبات أي خطاب. ليست هذه مهمتي السينمائية".
ويواصل: "ما أريده في الفيلم، ليس الجانب السياسي المرتبط بجرائم النظام وحقي في الثورة، بل تقديم قصص صغيرة لا تأخذ حقها. كان خالد أباً جيداً استطاع حتى آخر يوم، إشغال ابنتيه بحكايات حالمة، حتى تنسيا الحرب".
في المونتاج، يبحث المخرج عن المواد غير المضبوطة تقنياً. المواد التي تعكس أكبر قدر من العفوية.
كما يكشف عن إدارته للواقع لا التدخل في الحقائق. فالشحنة العاطفية بنيت على ما يريد قوله هو. إنها القصة التي نرويها من زوايانا. وهذه الزوايا جميعها تحلق فوقها الطائرات، وعلى الأرض، بشر، يعيشون بأمنيات كبيرة، أو صغيرة بحجم الرغيف، ويحدقون في السماء، وفي الأمتار المربعة القليلة المتاحة.