في عام 1991، جلست أنيتا هيل أمام مجلس الشيوخ في أميركا، وقدمت وصفاً دقيقاً للتحرش الذي تعرضت له من قبل المرشح للمحكمة العليا كليرانس توماس، فبعد أن رفضت مراراً أن تلتقي به خارج سياق العمل حين كان مشرفاً عليها في دائرة التعليم، بدأ يدعوها إلى القهوة في فضاء العمل، مُحدثاً إياها عن أفلامه الإباحيّة المفضلة، وما يريد ممارسته من أفعال جنسيّة. الشهادة المُرعبة التي قدمتها هيل، تمت مواجهتها بالسخرية، ووُجّه لها اللوم بداية على صمتها، ثم اتهمت بأنها تبحث عن الشهرة، وتستخدم التحرش الجنسي كوسيلة لصناعة الثروة.
كل هذا كان قبل حملة "أنا أيضاً" الشهيرة، والتي أطاحت بالعديد من المشاهير. بصورة أدقّ، جعلتهم يختفون من الساحة العامة، إذ لم يتعرض للعقاب القانونيّ إلا القليل منهم، كـ بيل كوزبي، الذي حُكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، كون الكثير من الدعاوى ضده، فقدت قيمتها القانونيّة بالتقادم.
ما حصل منذ خمسة وعشرين عاماً ما زال مستمراً حتى الآن، ولا نقصد هنا فقط "الرجال في السلطة" وبعض المنحرفين ومستغلي مناصبهم، بل نقصد بُنية "الفخ" المؤسساتي المرتبط بالتحرش، سواء مكان حدوثه، أو طريقة فضحه؛ فنحن أمام ديناميكيّة الجميع فيها ضحايا، من دون أن يطرأ تغير على البنية التي تنتج وتطبّع التحرش، وكأن هناك مَصيدة تُوقع بالمتحرش والضحية والشهود، من دون أن تبطل فعاليتها، كونها تمتد من داخل فضاء التحرش (الجريمة)، إلى فضاء العقاب.
بالرغم من موجة التعاطف والغضب الحاليّة، إلا أن الفخ ما زال قائماً، وما زال تهديده فعّالاً، أشبه بماكينة تلتهم ضحاياها إلى جانب من يراقب هذا الالتهام. هذه الماكينة تُعدل تقنيات عملها بحيث يكون الجميع مذنباً ومهدّداً في ذات الوقت، سواء قانونياً أو مهنياً أو فضائحياً.
التحرش كسوء فهم
من يقرأ شهادات النساء التي ظهرت للعلن وردود أفعال المشاهدين، يبدو له مفهوم التحرش واضحا، ولا داعي للجدل به، وكأن هناك وعياً بـ"الخطأ" يتجاهله المذنبون، ولا نقصد فقط وحشية ما فعله هارفي واينستين وبيل كوزبي وغيرهما، بل أيضاً حالات كـ الكوميديان الأميركي لوي سي كي، إذ كان يعلم أنه من غير اللائق أن يستمني، أو أن يُبرز ذَكره أمام أحد ما ضمن سياق مهنيّ، حتى لو طلب الإذن بذلك؛ فآليات انتهاك خصوصيّة الآخر ومخالفة "الذوق العام" واضحة، لكن المرحلة الأولى من الفخ، كما في حالة أنيتا هيل وسي كاي، هي اللاجديّة، والتعامل مع اتهامات الضحية بسخرية وتهكم، لإبطال جديّة هذه الاتهامات، وجعلها مع المتحرش على قدم المساواة وكأن كليهما وقع في سوء تقدير، أو أن واحداً منهما لم يفهم السياق، ليصبح الموضوع "كوميدياً"، يمكن التلاعب بمعناه وقصده، وبالنتيجة تلام الضحيّة، بوصفها مفرطة في"الجديّة" أو لم تفهم "النكتة".
اقــرأ أيضاً
صمت الشهود
المرحلة الثانية للفخ، ترتبط بالصمت، لا نقصد هنا صمت الضحيّة، بل الشهود، الذين سمعوا أو شاهدو سلوك أحدهم وتصرفاته. هذا الصمت مرتبط بديناميكية الفخ ذاتها، ويبرره الكثيرون -حتى الضحايا- بقسوة شروط وظروف المهن الاستعراضيّة (أي التمثيل) والمال الذي تحويه، لكن ما المقصود بقسوة صناعة الاستعراض؟ أو قسوة فضاء العمل التي يعلمها الجميع، حسب تعبير الصحافي والناقد الساخر (الساتير) السياسي جون أوليفر حين التقى بأنيتا هيل. يمكن فهم هذه القسوة بأن "ديناميكية الفخ" تورّط كل من يقترب منه، ويعلم بوجوده، ليبرز الصمت كوسيلة للنجاة؛ فالصمت هنا يرتبط بأسباب مهنيّة تتعلق بالنفي من فضاء العمل، وإن لم يكن الطرد بالمعنى الحرفي، بل بالنفي من سياق الإنتاج، كون الشاهد كالضحية، يتحولان إلى مصدر خطر على المؤسسة من جهة، وخطر على أنفسهم من جهة أخرى. الأمر يشبه بشدّة من يعملون في مناجم الفحم. سياق العمل خطر جداً، لكن هناك اتفاق على الصمت من أجل "الحفاظ على لقمة العيش".
لكن، بعكس التنقيب عن الفحم، حين تحدث "الفضيحة" وتقع الأذيّة، ويتحدث أحدهم عن المخاطر وما أصابه، لا يتوقف المنجم عن العمل، أي لا تتوقف الشركة عن الإنتاج، ولا تتفكك بنية الفخ، بل ننتقل إلى مرحلة أخرى لا تنتمي لفضاء العمل ذاته أو الفضاء القانوني، بل إلى شكل آخر من أشكال الفخ وهي "الفضيحة".
فخ الاعتراف
شرحت أنيتا هيل ما حدث معها في جلسة الاستماع، والأفعال والكلمات التي تعرضت لها والتي نطقتها كانت ضمن فضاء سيادي، ومن المفترض بعدها أن يتحول "سوء الفهم" الذي اتهمت به إلى دليل قانونيّ، لكن بسبب علنيّة الجلسة تحولت الموضوعة القانونيّة إلى "أداء علنيّ"، وتحولت صيغة الاعتراف إلى خشبة استعراضيّة، ووصل التشكيك بكلامها إلى درجة إخضاعها لفحص بجهاز كشف الكذب، الفحص الذي رفضه المرشح، وتم تعيينه بعد جلسة الاستماع بالمنصب الجديد بالرغم مما حصل.
نلاحظ أن ديناميكيّة الفخ فعّالة خارج فضاء التحرش وقوانين العمل؛ فالاستعراض حرّر الاعتراف من "وثائقيته" وحوله إلى ما يشبه تلفزيون الواقع، ليتحول المتهم والضحية إلى مؤديين من نوع ما، وهنا تعود اللاجديّة للظهور، للتشكيك بادعاءات الضحيّة.
ذات الشيء ينسحب على ادعاءات "أنا أيضاً"، إذ ننتقل من السياق القانوني والعقاب المرتبط به، إلى سياسات الاختفاء؛ فـ"الفخ" يفكك حق الظهور، إذ لا تتم المعاقبة وفق صيغة قانونيّة، بل عبر لعبة استعراضيّة يختفي إثرها المذنب من الفضاء العام، ويتحول الجدل نحو الضحيّة، وجديّة ادعاءاتها، لتتحول إلى موضوعة علنيّة، وهنا يُفعّل صمت الشهود مرة أخرى، فالبنية التي تطبّع التحرش لا تتغير، بل تُمارس سياسات الاختفاء، وكأن نظام العقاب ذاته يقع على الجميع. الضحية تتحول إلى موضوعة فضائحيّة، والمذنب والشهود يختفون في ذات الوقت، وهنا يوجه الانتقاد إلى طبيعة تقنيات الإدانة، فمن دون اعتراف آني من المذنب يقع ضمن "الزمن القانونيّ" وشهود يرفضون الصمت، نجد أنفسنا أمام حرب استعراضيّة، لا قضية قانونيّة يعاقب فيها المذنب، بل نوع من مصادرة حق الظهور.
الأهم، أنه حتى لو وقع العقاب أو لم يقع على الفاعل، فكل اعتراف علنيّ بالتحرش، يفعّل مساحة أكبر للصمت، ويعيد ضبط أداء المنتمين لفضاء الجريمة، بسبب الشعور بالتهديد بالفضيحة لا العقاب القانونيّ. وبغض النظر إن تم الأمر بصمت من دون بلبلة، كما حدث مع المصري يسري فودة، أو بعلنيّة كحالة واينستين، إلا أن "الفخ" يحافظ على نفسه، ويوظف الصمت ذاته لحماية بُنية التشغيل، والشروط التي تبيح التحرّش بجعله سلوكاً فردياً أو نتيجة سوء فهم، من دون المساس بـ"الشروط الصعبة" التي يدافع عبرها الجميع عن أنفسهم وعن صمتهم، وكأن هناك ضريبة يجب دفعها؛ فـ"المنجم" لن يغلق والمخاطر ستبقى على حالها.
كل هذا كان قبل حملة "أنا أيضاً" الشهيرة، والتي أطاحت بالعديد من المشاهير. بصورة أدقّ، جعلتهم يختفون من الساحة العامة، إذ لم يتعرض للعقاب القانونيّ إلا القليل منهم، كـ بيل كوزبي، الذي حُكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، كون الكثير من الدعاوى ضده، فقدت قيمتها القانونيّة بالتقادم.
ما حصل منذ خمسة وعشرين عاماً ما زال مستمراً حتى الآن، ولا نقصد هنا فقط "الرجال في السلطة" وبعض المنحرفين ومستغلي مناصبهم، بل نقصد بُنية "الفخ" المؤسساتي المرتبط بالتحرش، سواء مكان حدوثه، أو طريقة فضحه؛ فنحن أمام ديناميكيّة الجميع فيها ضحايا، من دون أن يطرأ تغير على البنية التي تنتج وتطبّع التحرش، وكأن هناك مَصيدة تُوقع بالمتحرش والضحية والشهود، من دون أن تبطل فعاليتها، كونها تمتد من داخل فضاء التحرش (الجريمة)، إلى فضاء العقاب.
بالرغم من موجة التعاطف والغضب الحاليّة، إلا أن الفخ ما زال قائماً، وما زال تهديده فعّالاً، أشبه بماكينة تلتهم ضحاياها إلى جانب من يراقب هذا الالتهام. هذه الماكينة تُعدل تقنيات عملها بحيث يكون الجميع مذنباً ومهدّداً في ذات الوقت، سواء قانونياً أو مهنياً أو فضائحياً.
التحرش كسوء فهم
من يقرأ شهادات النساء التي ظهرت للعلن وردود أفعال المشاهدين، يبدو له مفهوم التحرش واضحا، ولا داعي للجدل به، وكأن هناك وعياً بـ"الخطأ" يتجاهله المذنبون، ولا نقصد فقط وحشية ما فعله هارفي واينستين وبيل كوزبي وغيرهما، بل أيضاً حالات كـ الكوميديان الأميركي لوي سي كي، إذ كان يعلم أنه من غير اللائق أن يستمني، أو أن يُبرز ذَكره أمام أحد ما ضمن سياق مهنيّ، حتى لو طلب الإذن بذلك؛ فآليات انتهاك خصوصيّة الآخر ومخالفة "الذوق العام" واضحة، لكن المرحلة الأولى من الفخ، كما في حالة أنيتا هيل وسي كاي، هي اللاجديّة، والتعامل مع اتهامات الضحية بسخرية وتهكم، لإبطال جديّة هذه الاتهامات، وجعلها مع المتحرش على قدم المساواة وكأن كليهما وقع في سوء تقدير، أو أن واحداً منهما لم يفهم السياق، ليصبح الموضوع "كوميدياً"، يمكن التلاعب بمعناه وقصده، وبالنتيجة تلام الضحيّة، بوصفها مفرطة في"الجديّة" أو لم تفهم "النكتة".
صمت الشهود
المرحلة الثانية للفخ، ترتبط بالصمت، لا نقصد هنا صمت الضحيّة، بل الشهود، الذين سمعوا أو شاهدو سلوك أحدهم وتصرفاته. هذا الصمت مرتبط بديناميكية الفخ ذاتها، ويبرره الكثيرون -حتى الضحايا- بقسوة شروط وظروف المهن الاستعراضيّة (أي التمثيل) والمال الذي تحويه، لكن ما المقصود بقسوة صناعة الاستعراض؟ أو قسوة فضاء العمل التي يعلمها الجميع، حسب تعبير الصحافي والناقد الساخر (الساتير) السياسي جون أوليفر حين التقى بأنيتا هيل. يمكن فهم هذه القسوة بأن "ديناميكية الفخ" تورّط كل من يقترب منه، ويعلم بوجوده، ليبرز الصمت كوسيلة للنجاة؛ فالصمت هنا يرتبط بأسباب مهنيّة تتعلق بالنفي من فضاء العمل، وإن لم يكن الطرد بالمعنى الحرفي، بل بالنفي من سياق الإنتاج، كون الشاهد كالضحية، يتحولان إلى مصدر خطر على المؤسسة من جهة، وخطر على أنفسهم من جهة أخرى. الأمر يشبه بشدّة من يعملون في مناجم الفحم. سياق العمل خطر جداً، لكن هناك اتفاق على الصمت من أجل "الحفاظ على لقمة العيش".
لكن، بعكس التنقيب عن الفحم، حين تحدث "الفضيحة" وتقع الأذيّة، ويتحدث أحدهم عن المخاطر وما أصابه، لا يتوقف المنجم عن العمل، أي لا تتوقف الشركة عن الإنتاج، ولا تتفكك بنية الفخ، بل ننتقل إلى مرحلة أخرى لا تنتمي لفضاء العمل ذاته أو الفضاء القانوني، بل إلى شكل آخر من أشكال الفخ وهي "الفضيحة".
فخ الاعتراف
شرحت أنيتا هيل ما حدث معها في جلسة الاستماع، والأفعال والكلمات التي تعرضت لها والتي نطقتها كانت ضمن فضاء سيادي، ومن المفترض بعدها أن يتحول "سوء الفهم" الذي اتهمت به إلى دليل قانونيّ، لكن بسبب علنيّة الجلسة تحولت الموضوعة القانونيّة إلى "أداء علنيّ"، وتحولت صيغة الاعتراف إلى خشبة استعراضيّة، ووصل التشكيك بكلامها إلى درجة إخضاعها لفحص بجهاز كشف الكذب، الفحص الذي رفضه المرشح، وتم تعيينه بعد جلسة الاستماع بالمنصب الجديد بالرغم مما حصل.
نلاحظ أن ديناميكيّة الفخ فعّالة خارج فضاء التحرش وقوانين العمل؛ فالاستعراض حرّر الاعتراف من "وثائقيته" وحوله إلى ما يشبه تلفزيون الواقع، ليتحول المتهم والضحية إلى مؤديين من نوع ما، وهنا تعود اللاجديّة للظهور، للتشكيك بادعاءات الضحيّة.
ذات الشيء ينسحب على ادعاءات "أنا أيضاً"، إذ ننتقل من السياق القانوني والعقاب المرتبط به، إلى سياسات الاختفاء؛ فـ"الفخ" يفكك حق الظهور، إذ لا تتم المعاقبة وفق صيغة قانونيّة، بل عبر لعبة استعراضيّة يختفي إثرها المذنب من الفضاء العام، ويتحول الجدل نحو الضحيّة، وجديّة ادعاءاتها، لتتحول إلى موضوعة علنيّة، وهنا يُفعّل صمت الشهود مرة أخرى، فالبنية التي تطبّع التحرش لا تتغير، بل تُمارس سياسات الاختفاء، وكأن نظام العقاب ذاته يقع على الجميع. الضحية تتحول إلى موضوعة فضائحيّة، والمذنب والشهود يختفون في ذات الوقت، وهنا يوجه الانتقاد إلى طبيعة تقنيات الإدانة، فمن دون اعتراف آني من المذنب يقع ضمن "الزمن القانونيّ" وشهود يرفضون الصمت، نجد أنفسنا أمام حرب استعراضيّة، لا قضية قانونيّة يعاقب فيها المذنب، بل نوع من مصادرة حق الظهور.
الأهم، أنه حتى لو وقع العقاب أو لم يقع على الفاعل، فكل اعتراف علنيّ بالتحرش، يفعّل مساحة أكبر للصمت، ويعيد ضبط أداء المنتمين لفضاء الجريمة، بسبب الشعور بالتهديد بالفضيحة لا العقاب القانونيّ. وبغض النظر إن تم الأمر بصمت من دون بلبلة، كما حدث مع المصري يسري فودة، أو بعلنيّة كحالة واينستين، إلا أن "الفخ" يحافظ على نفسه، ويوظف الصمت ذاته لحماية بُنية التشغيل، والشروط التي تبيح التحرّش بجعله سلوكاً فردياً أو نتيجة سوء فهم، من دون المساس بـ"الشروط الصعبة" التي يدافع عبرها الجميع عن أنفسهم وعن صمتهم، وكأن هناك ضريبة يجب دفعها؛ فـ"المنجم" لن يغلق والمخاطر ستبقى على حالها.