فتنة هشام

23 يونيو 2015
لوحة للفنان التونسي رؤوف الكراي
+ الخط -
لا شكّ في أن الباحث والمفكّر التونسي هشام جعيّط قد افتنّ بشخصية الرسول محمّد، فأفرد له كتبًا كثيرة، تنتمي إلى البحث العلمي بأرقى صوره. ولا شكّ ثانية، في أن ما أتى به المفكّر والباحث لم يكن أمرًا نادرًا في دنيا البحث العلمي، حيث يمكن عدّ طائفة من الباحثين في الدين الحنيف والمفكّرين الذين اجتهدوا في إبراز تلك الهالة النورانية لعمل النبي محمّد.
ومقابل تلك المدوّنة الهائلة من البحوث العلمية المحكّمة، ثمّة كتب أخرى انتصرت للنبي محمّد، لا من طريق العلم بل من طريق الحبّ والمديح، إذ تقبلت صنيعه بصورة المقدّس والمعجز.
بيد أن كتاب جعيّط "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر"، يحتفظ بمكانة خاصّة، من حيث هو يبيّن نشوء الدولة الإسلامية وصعودها وارتقاءها لأن تكون دولة بما في الكلمة من معنى. حيث يبيّن أثر التركيبة الاجتماعية وخصوصية النظام الاجتماعي في قريش، وكيف عمل النبي من أجل توحيد الناس وإدخالهم في الدين الحنيف، ورفد ذلك كلّه بمنظومة سياسية ودينية، ترّسخت واستمرّت حتّى بعد وفاته. صحيح أن الكتاب يركّز على حادثة الفتنة الشهيرة، لكن "ضدّ الرؤية التقليدية للأمور وضدّ حداثة تبسيطية"، إلا أن أهميته فعلًا في اقتفاء وتعليل ذاك الصعود الناجح للدولة الإسلامية.
وقد يرنّ تعبير "الدولة الإسلامية" رنينًا نشازًا آن نتذكّر كيف اختطف داعش ديننا الحنيف، واستعمله بطريقة مهينة، وألصق فيه كلّ ما هو عكسه. ففي تحقيق إخباري أخير، تبين أن داعش يغلق جميع المدارس الموجودة في مناطق سيطرته ويمنع الناس من حقّهم في التعليم، بينما يحتل التعليم في السورة الأولى من القرآن الكريم؛ سورة العلق، مرتبة أدنى إلى العبادة: "اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم".

اقرأ أيضاً: زهرة تُونس

الدولة الإسلامية قامت على الفتح والغنائم، وهما مفهومان في صلب الدين الإسلامي، لا لفظان يمكن استعمالهما بطريقة تزيّف معنييهما. يفضح الواقع وسلوك الناس، زيف داعش المختصّ بتصوير نفسه واستعراض إجرامه على طريقة الأفلام الهوليودية، إذ إننا لم نقرأ في كل تاريخ الإسلام عن نزوح جماعي نتيجة الفتح مثلًا، كما يحدث اليوم حين نرى صور الناس الهاربين من داعش. كما أن مفهوم الغنائم وطرق تقنينها في الإسلام لا علاقة له بسلوك داعش في سرقة النفط والآثار وبيعها لجهات غريبة عجيبة، من أجل تحويلها إلى أسلحة تفتك بالناس.
لكأن داعش استولى على الدين وسرقه، وادّعى أنه "الدولة الإسلامية"، مستندًا في ذلك لا إلى القرآن الكريم أو كتب البحث العلمي بالطبع، بل إلى تلك الكتابات المتهافتة التي لا غرض لها إلا الإساءة للدين، من خلال تضخيم القشور، وإخراج الأمور من سياقها، واللعب بالمعاني، وإرساء العنف سبيلًا لا رادّ له، لكل قول أو تصرف مختلف.
داعش الأقرب إلى صورة المرتزقة والدجّالين، مختصّ بالتهديم والقتل معًا، وإشاعة الخراب في العمران، وتعميم الحقد والكراهية، هو الصورة المعاكسة تمامًا لما أرسته الدولة الإسلامية، وكيف بنت صرح الحضارة الإسلامية القائمة على تناغم لا يضاهيه تناغم بين العمران والبشر. شيء تمكن رؤيته بالعين في قصور الأمويين في بادية الشام مثلًا التي تحوي أعمالا فنيّة على جدرانها فيها تشخيص للبشر. ومن خلالها ندرك كيف تمّ تمجيد الحياة لا الموت. أو مثلًا من خلال الانتباه إلى قصر الحمراء ذي الواجهات البسيطة المتقشّفة، لكنّها تنفتح على الجنّة والزخارف والتزيين، إذ إن التواضع وعدم التباهي بالثروة ومراعاة شعور الآخرين، هي كلّها من أسس الحضارة الإسلامية. ويتضح التناغم بين العمران والبشر في الحلول المبتدعة لري القصر المنمنم وحدائقه، إذ إن الطهارة كمفهوم كامل متكامل وجد صداه في العمارة الإسلامية. أمثلة لا تحصى ومقارنات كثيرة بين الدولة الإسلامية الأصلية وتلك المزيّفة الدجّالة، منها ما هو مستمّد من الحياة اليومية، ومنها ما هو مستند إلى الكتب.
بيد أن اجتماع الماء مع قصر الحمراء، يتيح للشعر أن يحضر هنا، لا من خلال أبيات أندلسية، بل من خلال المتنبي، الشاعر الاستثنائي المقيم أبدًا في الوجدان والذاكرة. ولا شكّ في أن المكانة العالية التي حازها، أثارت الخصوم والحسّاد، حاول بعضهم تقليد شعره، ففضحتهم أصالة صنيع المتنبي. إلا أن التاريخ يخبّر أن طائفة من "الكتّاب" ضخّموا القشور وأخرجوا الأمور من سياقها ولعبوا بالمعاني، وأرسوا العنف اللفظي (السخرية والذمّ) سبيلًا للإساءة للمتنبي. ثمّة كتب كرّست مثلًا لـ "سرقات المتنبي" مثل "الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي وساقط شعره" لابن المظفّر الحاتمي، أو "الإبانة عن سرقات المتنبي لفظًا ومعنى" لأبي سعد العميدي، وغيرها من الكتب الوضيعة التي لفظها تاريخ الأدب. بالمقابل نرى كيف انتصر العلم للمتنبي في "الفسر" لابن جني، أو "معجز أحمد" لأبي العلاء المعري وغيرهما الكثير. بالعلم وحده يمكن كشف الأصيل من المزيّف، والغثّ من السمين كما قالت العرب. لذا كان هذا الحوار مع الدكتور المفكّر هشام جعيط ضيف ملحق الثقافة، الذي افتنّ بالنبي محمّد والدولة الإسلامية.
المساهمون