فتاوى لا يرصدها الرادار
"أنا إرهابي فخور"، كان هذا عنوان مقال كتبه الحاخام مئير دفيد دروكمان، حاخام "كريات موسكين"، وأحد أبرز مرجعيات التيار الديني الصهيوني، وقد نشره، مطلع الشهر الجاري، موقع "حباد أون لاين" الذي يعبّر عن حركة "حباد"، إحدى أهم الحركات الدينية في إسرائيل. وقد ضمّن دروكمان مقاله هذا فتوى، تركت صدىً واسعاً في الأوساط العامة في إسرائيل، إذ شدّد على أن استخدام العنف ضد الفلسطينيين ليس أمراً تقره الشريعة اليهودية فقط، بل تعده واجباً، واصفاً منفذي العمليات الإرهابية ضد الفلسطينيين بـ "الصديقين". وقد جاءت هذه الفتوى من منطلق حرص هذا الحاخام المهم على "التأصيل الفقهي" لعمليات حرق المدارس التي يدرس فيها طلاب من اليهود، ومن فلسطينيي الداخل، كما حدث في القدس المحتلة أخيراً. لم يقف الحاخام عند هذا الحد، بل جزم بوجوب منح "جائزة إسرائيل" السنوية لأعضاء التنظيم الإرهابي "لاهفا" الذي تبيّن أنه الذي يقف وراء حرق المدارس، علاوة على مسؤوليته عن إحراق مساجد، وتنفيذ عمليات اعتداء وحشية ضد الفلسطينيين، لا سيما في القدس. تنضم الفتوى التي أصدرها دروكمان إلى مئات الفتاوى التي أصدرتها المرجعيات الدينية اليهودية، في العقد الأخير، والتي تشرّع الاعتداء على الفلسطينيين، لكونهم فلسطينيين فقط.
ولا شك في أن أهم وأخطر مادة تحريضية تحثّ على قتل المدنيين الفلسطينيين كانت كتاب "شريعة الملك" الذي أصدره الحاخام إسحق شابيرا، مدير مدرسة "قبر يوسف"، في مستوطنة "هاربراخا" القريبة من مدينة نابلس، وتضمّن فتاوى ترمي إلى "التأصيل الفقهي" للمسّ بالأطفال الفلسطينيين، وضمنهم الرضع. وقد قدم شابيرا مسوغاً لافتاً لتبرير المسّ بالأطفال الفلسطينيين، وضمنهم الرضع، بالقول "كان هناك ثمة شخص يعادي إسرائيل ويحاربها، فإنه يجوز قتل أطفاله، من أجل التأثير على معنوياته". لو كان هذا "الاجتهاد الفقهي" يمثل الحاخام شابيرا وحده، لكان يمكن اعتباره رأياً شاذاً. لكن، رويداً رويداً، أخذ حاخامات كثيرون، وضمنهم مرجعيات إفتاء معدودة، يعلنون تأييدهم فتوى شابيرا، بل إن الحاخام شموئيل إلياهو، الحاخام الأكبر لمدينة صفد عدّ الفتوى "إبداعاً فقهياً".
مظاهر تأثير هذه الفتاوى على سلوك المستوطنين اليهود الإرهابي في الضفة الغربية طاغية. فكل التشكيلات الإرهابية اليهودية التي عملت ضد الفلسطينيين، ابتداءً من التنظيم السري اليهودي، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومروراً بتنظيم "بات عاين" وغيره، وانتهاءً بتنظيم "لاهفا"، تستند، في عملياتها الإرهابية، إلى فتاوى الحاخامات. ولا يقتصر تأثير هذه الفتاوى على سلوك الجماعات الإرهابية، بل يتعداها إلى سلوك الجيش الإسرائيلي وأذرعه. صحيح أن جميع ألوية الصفوة التي شاركت في العمليات البرية، خلال الحرب على غزة أخيراً، ارتكبت فظائع ضد المدنيين الفلسطينيين، بناءً على تعليمات قيادة الجيش. لكن، لا شك في أن أكثر هذه الألوية وحشية كان لواء "جفعاتي" الذي عمل في جبهتي خانيونس ورفح. وسيزول العجب، إذا عرفنا أن قائد هذا اللواء، العقيد المتديّن عوفر فينتور، هو أحد طلاب الحاخام دوف ليئور الذي أفتى، مع بدء الحرب، بوجوب الحرص على قتل كل الفلسطينيين، من دون التمييز بين المقاتل وغير المقاتل (هآرتس، 24-7-2014). وقد حاول فينتور استنهاض همم جنوده، وهم يوشكون اقتحام القطاع، قائلاً: "هدفنا تأديب العدو الذي يسب إله إسرائيل". وقد أكدت أغلبية المعلقين العسكريين في إسرائيل على أن القادة المتدينين يتأثرون بفتاوى الحاخامات الذين تتلمذوا على أياديهم. فجميع المدارس الدينية العسكرية المسماة "يشيفوت ههسدير" تدرس طلابها فتاوى الحاخامات المتعلقة بالشؤون الحربية. ويمثل تعاظم تأثير المرجعيات الدينية اليهودية على الجدل العام في إسرائيل عاملاً إضافياً، يضمن استمرار اندفاع المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف. وقد كان رئيس الكنيست الأسبق المتدين، أبراهام بورغ، جازماً في حكمه أن سيل الفتاوى التي يصدرها الحاخامات أسدل الستار على أي إمكانية لتحقيق تسوية سياسية للصراع مع الفلسطينيين. وفي مقال نشرته "هارتس" في 22-6-2014، يؤكد بورغ أن فتاوى الحاخامات تمثل، في الواقع، عصب نظرية "صدام الحضارات" التي يؤمن بها معظم قطاعات المجتمع الإسرائيلي. من الأهمية بمكان التنويه إلى أن جميع الحاخامات في إسرائيل هم، في الأساس، موظفون رسميون، يتقاضون رواتب جزلة من "الدولة".
ومع ذلك، لم يحدث أن عاقبت الحكومة الإسرائيلية أياً منهم، حتى عندما يصدر فتاوى تحريضية على قرارات هذه الحكومة. مثلاً، أفتى الحاخام إسحق ليفنانون بوجوب التصدي بالسلاح لأية محاولة من الحكومة لإخلاء مستوطنات ضمن أية تسوية سياسية للصراع. مع ذلك، لم تتم مراجعة هذا الحاخام، ولم يتأثر عمله موظفاً رسمياً. لكن أغراض الفتوى في إسرائيل تطال مجالات أخرى، لا سيما المجال الاجتماعي، ويُعد كثير من هذه الفتاوى من ضروب الشعوذة. على سبيل المثال، أصدرت المرجعيات الدينية لحركة "شاس" فتوى تنص على أن كل من يصوت للحركة "سيحصل على مكان في الدرجة الخامسة من جنة عدن"، علماً أن هذه "الدرجة" تعتبر أعلى درجات الجنة، بحسب النصوص الدينية اليهودية. ومن الفتاوى الشاذة التي أصدرتها مجموعة من الحاخامات، وأشارت إليها صحيفة "يديعوت أحرنوت" بتاريخ 12-4-2013، حيث حظرت هذه الفتوى نقل الدم من علماني إلى متدين، ومن امرأة إلى رجل. وبحسب الفتوى، إن كانت هناك ضرورة لدم المرأة، فإنه يتوجب نقل دمها إلى رجل متزوج، وليس لأعزب. وذكرت صحيفة "ميكور ريشون" في 24-11-2013 أن الحاخام شموئيل هليفي، أحد أبرز الحاخامات الغربيين، قد أفتى بعدم جواز قيادة المرأة السيارة، لتسببها في وقوع حوادث سير كثيرة على الطرقات، "لأن "مفاتنها" تثير غرائز السائقين من الرجال، ما يسفر عنه وقوع حوادث الطرق".
اللافت أن فتاوى الحاخامات التي تحرض على القتل، وتلك التي تثير التندر، لا يلتفت إليها أحد في العالم الغربي، ولا يعيرها اهتماماً إعلام الدول العربية المتحمسة لخوض الحرب على "الإرهاب الإسلامي".