في العام 1946، طلب تاجر الفن الفرنسي بيار لوب من صديقه الشاعر أنتونان أرتو (1896 ـ 1948) كتابة نصّ عن الرسّام فينسنت فان غوغ (1853 ـ 1890). لكن حالة أرتو النفسية الصعبة وألمه المزمِن دفعاه إلى رفض هذه المهمة. ونذكّر هنا بأن الشاعر كان قد خرج منذ فترة قصيرة من مصح "روديز" حيث أمضى ثلاثة أعوام، خضع خلالها إلى 58 صدمة كهربائية.
وفي بداية 1947، قصد أرتو، برفقة صديقته مارت روبير، متحف "أورانجوري" الباريسي لمشاهدة المعرض المخصص لفان غوغ. وحول هذه الزيارة، تقول روبير: "ظننتُ أنه لم يرَ شيئاً، إذ كان يسير بسرعة حالت دون تمكّني من اللحاق به. لكنه في الواقع صوّر جميع الأعمال المعروضة بعينيه وحفظها في ذاكرته".
وبعد بضعة أشهر، صدر نصّه الشهير "فان غوغ، الرجل الذي دفعه المجتمع إلى الانتحار" الذي يُعتبر من أفضل ما كُتب حول الرسّام الهولندي، ويُثبت أن الشاعر الذي عرف المصير نفسه، عثر في النهاية على أخيه في الألم.
وفي هذا النصّ نقرأ: "احترسوا من مناظر فان غوغ الجميلة، المُزَوْبِعة والساكنة في آن، المتشنّجة والهادئة. فبين عارِضٍ للحمّى الصفراء وآخر، فقد [الرسّام] صحته". وفي معرض وصفه لهذه اللوحات، لم يتردد أرتو في تشبيهها بـ"النار الروميّة" وبـ"قنابل ذرّية" قادرة على "زعزعة الامتثالية الدعْموصية للبورجوازية".
أما الأعمال التي شاهدها في معرض "أورانجوري"، فاكتشف فيها "مواكب تدويمية مرصّعة بالأعشاب القرمزية، وممرات جوفاء يعلوها سِدْرٌ جبلي، وشموس بنفسجية تدور حول عرمات قمحٍ من الذهب الصافي".
وهذا ما نشاهده بدورنا في معرض "فان غوغ/أرتو" الذي افتُتح حديثاً في متحف "أورسيه" الباريسي، ويستحضر ذلك "اللقاء" الفريد بين الرسّام والشاعر من خلال 30 لوحة للأول وعدد كبير من رسومه، وعشرات الرسوم التي أنجزها أرتو بين عامَي 1946 و1947، وعدد من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها له دونيز كولومب.
ولا يهدف المعرض من خلال هذه الأعمال إلى إجراء مقابلة أو حوار بينهما، بل خلق مسار مستوحى من نص أرتو حول فان غوغ، تُوَقّعه اللوحات التي تحدّث الشاعر عنها في هذا النص. وفي هذا السياق تحضر لوحة "مِقعد غوغان"التي رسمها فان غوغ أثناء إقامته المشؤومة في مدينة آرل الفرنسية التي قطع خلالها أُذْنه؛ ولاحظ أرتو فيها "ثغرة ضوء ليلكية تلتهم قضبان المِقعد القديم".
وفي السياق ذاته، تحضر لوحة "غرفة فان غوغ في آرل" التي رسمها الفنان خلال إقامته في مصح "سان ريمي دو بروفانس"، وأوحت للشاعر بسكينة مطمئنة نظراً إلى "طابعها الريفي الجميل"، كما أوحت له "برائحة القمح المخلَّل الذي نراه يرتجف داخل المنظر الخلفي".
ونشاهد أيضاً في المعرض أربعة بورتريهات ذاتية لفان غوغ تمنحنا الفرصة لرؤية "وجهه المبهور دائماً، والساحر في بعض جوانبه"، على حد تعبير أرتو. ورغم غياب لوحة "حقل قمح وغربان"، الغالية على قلب الشاعر، لكننا نتمكّن من تأمّلها نظراً إلى إسقاط صورتها على شاشة كبيرة، إلى جانب لوحة "الطبيب غاشيه"، ذلك "الشخص الشرير" و"الحارس الصارم والمقيِّح" الذي يعتبره الشاعر مسؤولاً عن انتحار فان غوغ.
ومن بين رسوم أرتو الحاضرة في المعرض ـ وتتميّز بأسلوبٍ سورّيالي عنيف يظهر فيه الشاعر كطَيْفٍ بجروح نفْسه وتصدّعاتها ـ يستوقفنا رسمٌ بعنوان "بورتريه ذاتي" أنجزه أرتو عام 1947 وأسقط فيه وجهه بخُصَل شعرٍ مرسومة على شكل فواصل ملوّنة بالأزرق والبرتقالي، وبملامح محفورة بعمقٍ بواسطة قلم الرصاص؛ بورتريه يستحضر بقوة وجه فان غوغ، ذلك الصديق الذي لطالما بحث أرتو عنه خلال حياته، ولم يجده.
باختصار، معرضٌ هو كناية عن لقاءٍ مثير بين عبقريين سارا طوال حياتهما على حافة الجنون، داخل عزلة مخيفة سببها مرضهما النفسي المزمِن وعدم فهم المجتمع لهما.
____________________________
يستمر المعرض لغاية 6 تموز/ يوليو 2014
Paris 7 ـ Orsay Museum