فاتورة كشف الأكاذيب

02 مارس 2015
+ الخط -
طيب، كيف ألوم أم محمود بائعة السوق الغلبانة، لتصديقها أن السيسي "أنكز مصر من حرب أهلية وقالق نوم أمريكا وإسرائيل"، حين أقرأ مقالاً لأستاذة فلسفة، ترى أن السيسي "يؤسس لخطاب علماني يحل مشاكل مصر حلولاً غير تقليدية؟"، فإذا كانت أم محمود لا تملك بديلاً سوى تصديق كذب وسائل "الإع..لام"، لتصبر على مرار العيشة، وتتشجع على النزول من بيتها في طلب الرزق، فأي عذر يمكن التماسه لأستاذة الفلسفة التي بدلاً من أن تعلّم طلابها كيفية البحث عن الحقيقة، تحولت هي ذاتها إلى مروّجة للأوهام السياسية.
في مقالها الذي اختارت صحيفة ثقافية مهمة أن تجعله عنوانها الرئيسي، ترى دكتورة الفلسفة المرموقة أن السيسي "يفكر تفكيراً علمانياً، ويعي المسار الذي تتشكل من خلاله الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية"، مرتكزة على عبارة قالها، في خطبة له، هي "إن العلم والعمل أساس الدولة الجديدة"، معلقة على هذه العبارة المذهلة بقولها "وهو الآن يطبق تلك العبارة، ويمارسها من خلال سياسته في حل مشكلات اجتماعية واقتصادية، حلولاً غير تقليدية". لم يثر ما كتبته الدكتورة سخريتي، بل أثار فزعي، لأن ما أعرفه من متابعتي لها، لا يضعها في قائمة المشتاقين إلى المناصب، أو هواة اللحس الممنهج للأعتاب. لذلك، أخذت أبحث بإلحاح عن تلك الحلول السيسية "غير التقليدية" التي يمكن أن تكون قد فاتتني، فلم أجد إلا إمعاناً في تقنين إرهاب الدولة، ودعماً كاملاً لسلخانات التعذيب في الأقسام والسجون، ورعاية رسمية لتحويل الأذرع الإعلامية إلى وسائل للتدريع والتضليل، فلُمت نفسي، لأنني أضعت كل هذا الوقت في التعامل بجدية، مع من يفترض أن السيسي يتذكّر، أصلاً، العبارات التي يقولها في خطبه المكتوبة له من كتبة الرئاسة، وهي خطب لا يتعامل معها السيسي نفسه باحترام، حين يخرج عن نصها دائماً، ليؤدي وصلات الحنين الغامض المتلعثم، التي تعجب القطاعات المضطربة عاطفياً من جمهوره العريض.
ربما كانت صدمتي من مقال الدكتورة مبالغاً فيها، لأنني توقفت، منذ عام ونصف، عن قراءة الصحف الورقية، حفظاً للوقت والجهد، وما تبقى من المرارة والأعصاب. ومع ذلك، لا يسلم الأمر من افتكاسات النفاق والموالسة، التي يعيد الأصدقاء المازوخيون نشرها، عبر مواقع التناكد الاجتماعي، وكلها مقالات لكتّاب من عتاولة النصابين والسرسجية، أعلم أنهم لا يصدقون كلمة واحدة مما يكتبونه في نفاق السيسي. ولذلك، شعرت بالأسى، حين وجدت أستاذة جامعية مرموقة، تكتب كلاماً ينبئ عن انفصال مريع عن الواقع، إلى درجة أنها تصف السيسي بأنه راعي التفكير العلماني، بعد أيام من نشر الصحف قرارات وزارة الأوقاف بعودة الخطباء السلفيين إلى المنابر، بزعم الاستعانة بهم في مواجهة داعش.
المشكلة أننا لا نتحدث عن حالة فردية، يمكن تجاهلها، بل نتحدث عن كتاب وسياسيين كثيرين، مهما اختلفت معهم، كنت ألتمس فيهم رجاحة العقل، فإذا بي أراهم، لأسباب غامضة، يكتبون كلاماً يصح علمياً وصفه بالريالة، وإلا قل لي كيف يمكن وصف حديث بعضهم عن السيسي باعتباره أتاتورك الجديد، الذي سيخرج مصر، أخيراً، من إدمان الحلول الوسط في تعاملها مع الفكر المتطرف، رغم أن السيسي صفع هؤلاء، مرة تلو الأخرى، حين تحدث مراراً عن الشيخ محمد عبده بوصفه النموذج الفكري الأمثل، ما يوحي بأنه لم يقرأ لمحمد عبده كتاباً على بعضه، وأنه لا يعرف أن فكر جماعة الإخوان التي يدّعي محاربتها، خرج أصلاً من عباءة فكر محمد عبده، وتلميذه الأثير محمد رشيد رضا. ومع ذلك، لا زال يجد مثقفين يصفونه بأنه رائد علماني، وقائد تنويري، مع أن تطورات الأحداث تثبت، كل يوم، أن السيسي ليس لديه أي مشكلة حقيقية مع الفكر المتطرف، طالما لم ينازعه على السلطة، ولم يهدد "عرق الجيش"، على حد تعبيره المؤسف الشهير. ولذلك، ستنتهي حربه المزعومة على التطرف الديني، فور ضمانه الكامل استمرار سيطرة الجيش على مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية، مع السماح بوجود قشرة مدنية، متفاوتة السُمك وزاهية الألوان، يمكن أن يشترك في خلطتها ممثلون لأعداء الماضي، مع أي بزرميط مدني، ترضى عنه الجهات المانحة والقوى الظارفة.
كالعادة، لن يعدم هواة التفويض على الناشف من المثقفين، وسائل التبرير والتنظير، حين يأتي أوان انكشاف الأكاذيب، سواءً رحل السيسي قبل نهاية فترته الرئاسية، أو بعد فترتين رئاسيتين، أو حتى بعد ربع قرن، لو تم تعديل دستوره الملاكي في برلمانه العمولة، ليجد ملايين المصريين أنفسهم وقتها، مضطرين إلى تحمل مزيد من أعباء فاتورة كشف الأكاذيب التي بنى عليها السيسي نظامه، وشق، بفضلها، طريقه لتحقيق حلم الأوميجا القديم.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.