بمَ كان يفكّر ماريو تيران، حين نفّذ قرار إعدام تشي غيفارا في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1967؟ بالطبع لا شيء. كل ما كان يختلج في عقل مدمن الكحول، ابن الـ31 عاماً، هو قتل شخص، انتقاماً لمقتل 3 من رفاقه، يحملون اسم "ماريو" أيضاً، على يد رجال الـ"تشي". لكن تيران، لم يكن يدري يوماً أن الرجل القتيل سيُصبح أكثر من مجرّد إنسان ميّت في خيمة في إحدى غابات بوليفيا. لم يكن تيران، المدفوع لقتل غيفارا من رجل الاستخبارات الأميركي من أصل كوبي، فيليكس رودريغيز، يعلم أن انتقامه الذي بحث عنه، سيتحّول إلى "مقتل فكرة وحلم". لم يكن أفضل معبّر عن "قباحة" فعل تيران، سوى ابن تيران بالذات، الذي كتب، منذ سنوات خلت، في الصحيفة البوليفية "ال ديبير"، ما يلي: "مرّت أربعة عقود على تدمير ماريو تيران لحلم وفكرة. تشي عاد لينتصر مجدداً".
لم يترك غيفارا هذا الأثر عند نجل الجلّاد فحسب، بات الطبيب القديم رمزاً لفريق كرة قدم برازيلي يبغي الشهرة. بات مواكباً للحراك اليوناني في عامي 2011 ـ 2012، في الأزمة الاقتصادية. بات الرجل أكثر من مجرّد انسان صرخ في وجه تيران "لا تكن جباناً. اقتلني. فأنت في النهاية تقتل رجلاً فقط". بات تشي غيفارا، تلك "الفكرة" التي تستحوذ على عقول كل ثائر على وجه الأرض، أكان متمرّداً على سلطة أبوية، أم قائداً لثورة مجتمعية.
كان غيفارا عادياً للغاية: يقود دراجة نارية، ويعمل مع رجاله يداً بيد، لا خلف المكاتب، ويدخّن السيكار، ويشرب الويسكي. نمط حياة طبيعي، تجده في أزقة ديترويت ومارسيليا وبرلين وأثينا وروما وباريس وجوهانسبورغ ولندن، وغيرها من المدن والقرى الحالمة. كل ما فعله تشي كان "اختراق الحدود". كان أرجنتينياً، لكنه مات أمميّاً. شهدت كوبا بدايته، ورفض أن تكون نهايته. مرّ في الكونغو والصين وعاد إلى أميركا الجنوبية. ليس الوطن بالنسبة إليه حدوداً مرسومة بقلم ما على ورقة تُدعى الخريطة، بل إن الانسان هو كل الوطن في السعي إلى التحرّر من أجل الحرية.
لم يكن الرجل قديساً، ساهم في إعدام الآلاف، كون "التطهير من الماضي أمر واجب". لكنه فهم أن الشعوب تحتاج إلى تلك الشعلة التي توقد سراجها، حتى تصل إلى الهدف. ففي غرفة مظلمة، هناك دائماً هذا الشجاع الذي يسعى إلى إضاءة الغرفة. غيفارا كان هذا الرجل. لذلك كان من الصعب قتل الفكرة، ومعها قتل الثورة، أو رمزها. ولم يكن تخليد غيفارا، أمر متعب، فالهالة التي اكتسبها، والمجد الذي ناله، وسرعة التخلّص منه على يد الاستخبارات الأميركية، أفضت إلى استيلاد التعاطف العالمي معه، وتكريسه كقائد الثوار الأزلي.
تخطّى غيفارا الحدود، لكن "الثوار" لم يتخطوها على مرّ العقود. فكل "ثائر" أو "مشروع ثائر" يقف عند حدود معيّنة، هي الحدود التي ينال فيها مبتغاه. فمفهوم "الثورة" إن تأطر أو قُزّم إلى قطع صغيرة تُشبه واقعنا الرأسمالي، لا تعود "ثورة"، بل مجرّد سعيٌ إلى هدف ما، باسم "الأنا".
لا حدود للثورة في المفهوم الغيفاري، أي أن الثورة تبقى في حراك دائم حتى يتمكن آخر إنسان على وجه الأرض من العيش بكرامة، وينال قسطه من التعليم والغذاء والطبابة. ثوار العقود المتلاحقة لم يكونوا كذلك. هزمتهم مطاعم الوجبات السريعة في العاصمة الروسية موسكو في 1990، وقضت عليهم أنظمة دينية شرقاً وغرباً، من دون أن يملكوا القدرة على المواجهة.
هذا ما قتل مفهوم "الثورة"، لا "غلاسنوست" و"بيروسترويكا" ميخائيل غورباتشيف فقط، بل أيضاً الضريبة السوفييتية على زجاجة "فودكا" في مرفأ غدانسك البولندي، في مطلع الثمانينات، هي ما ساهمت في قتل الثورة مرتين: مرة حين انتفض عمال المرفأ رافعين صور غيفارا في تحدّيهم السوفييت، ومرة حين سقطت الشيوعية، وسقط معها آخر مفهوم ثوروي بالمنحى الاجتماعي، لمصلحة نظام رأسمالي متوحّش.
وإذا كانت "الثقافة الشعبية"، مجرّد حالة تتمازج فيها الأساطير والأخبار، مع إضافة القليل أو الكثير من حكايات البطولة والعنفوان، إلا أن اتفاق الثقافات الشعبية المتفرّقة حول العالم في اعتبار غيفارا كرمز أوحد لمطلق ثورة، يُعدّ الأمر الأكثر أهمية في موضوع "العدالة الاجتماعية".
لم يكن غيفارا مجرّد رجل سعى إلى الخروج من طبقة الفلاحين بغرض الصعود على السلّم الاجتماعي، ليُصبح بورجوازياً ويقول لمحيطه "أنا هنا". لم يكن هذا هدفه، لا بل إن تشي "نزل" من عليائه الأرستقراطية، إلى المركب "غرانما" ومخر عباب البحر، للوصول إلى مداخل جزيرة يستحق شعبها ثورة. هافانا كانت تستحقّ تلك الرحلة.
ليست "الثقافة الشعبية" مجرّد درس يُقدّم إلى العالم، بل هو فعل تمارسه الشعوب بحق ذاتها، وغيفارا أدرك ذلك بقوله: "أنا لستُ محرِّراً، فالمحررون لا وجود لهم، بل الشعوب وحدها هي مَن تحرّر نفسها". وللتحرّر سبيل واحد: "لن يكون لدينا ما نحيا من أجله إذا لم نكن على استعداد أن نموت من أجله". أما الخوف، فلا يكون سوى في الاستسلام: "إنّ الثُوَّار ينتابهم الصقيع حين يجلسون على الكراسي ويبدأون هدم جهد الثورة. وهذا هو التناقض المأساوي: أن تناضل من أجل هدف معيّن، وحين تبلغه تتوقف الثورة وتتجمّد في القوالب. وأنا لا أستطيع أن أبقى متجمداً في المنصب ودماء الثورة تغلي في عروقي". وبما أن الثورة هي ابنة الانسان، فلن تكتمل إلا بانتصاره، فالانسان هو الوطن والغاية وإلا العدم والموت.
لم يترك غيفارا هذا الأثر عند نجل الجلّاد فحسب، بات الطبيب القديم رمزاً لفريق كرة قدم برازيلي يبغي الشهرة. بات مواكباً للحراك اليوناني في عامي 2011 ـ 2012، في الأزمة الاقتصادية. بات الرجل أكثر من مجرّد انسان صرخ في وجه تيران "لا تكن جباناً. اقتلني. فأنت في النهاية تقتل رجلاً فقط". بات تشي غيفارا، تلك "الفكرة" التي تستحوذ على عقول كل ثائر على وجه الأرض، أكان متمرّداً على سلطة أبوية، أم قائداً لثورة مجتمعية.
كان غيفارا عادياً للغاية: يقود دراجة نارية، ويعمل مع رجاله يداً بيد، لا خلف المكاتب، ويدخّن السيكار، ويشرب الويسكي. نمط حياة طبيعي، تجده في أزقة ديترويت ومارسيليا وبرلين وأثينا وروما وباريس وجوهانسبورغ ولندن، وغيرها من المدن والقرى الحالمة. كل ما فعله تشي كان "اختراق الحدود". كان أرجنتينياً، لكنه مات أمميّاً. شهدت كوبا بدايته، ورفض أن تكون نهايته. مرّ في الكونغو والصين وعاد إلى أميركا الجنوبية. ليس الوطن بالنسبة إليه حدوداً مرسومة بقلم ما على ورقة تُدعى الخريطة، بل إن الانسان هو كل الوطن في السعي إلى التحرّر من أجل الحرية.
تخطّى غيفارا الحدود، لكن "الثوار" لم يتخطوها على مرّ العقود. فكل "ثائر" أو "مشروع ثائر" يقف عند حدود معيّنة، هي الحدود التي ينال فيها مبتغاه. فمفهوم "الثورة" إن تأطر أو قُزّم إلى قطع صغيرة تُشبه واقعنا الرأسمالي، لا تعود "ثورة"، بل مجرّد سعيٌ إلى هدف ما، باسم "الأنا".
لا حدود للثورة في المفهوم الغيفاري، أي أن الثورة تبقى في حراك دائم حتى يتمكن آخر إنسان على وجه الأرض من العيش بكرامة، وينال قسطه من التعليم والغذاء والطبابة. ثوار العقود المتلاحقة لم يكونوا كذلك. هزمتهم مطاعم الوجبات السريعة في العاصمة الروسية موسكو في 1990، وقضت عليهم أنظمة دينية شرقاً وغرباً، من دون أن يملكوا القدرة على المواجهة.
هذا ما قتل مفهوم "الثورة"، لا "غلاسنوست" و"بيروسترويكا" ميخائيل غورباتشيف فقط، بل أيضاً الضريبة السوفييتية على زجاجة "فودكا" في مرفأ غدانسك البولندي، في مطلع الثمانينات، هي ما ساهمت في قتل الثورة مرتين: مرة حين انتفض عمال المرفأ رافعين صور غيفارا في تحدّيهم السوفييت، ومرة حين سقطت الشيوعية، وسقط معها آخر مفهوم ثوروي بالمنحى الاجتماعي، لمصلحة نظام رأسمالي متوحّش.
وإذا كانت "الثقافة الشعبية"، مجرّد حالة تتمازج فيها الأساطير والأخبار، مع إضافة القليل أو الكثير من حكايات البطولة والعنفوان، إلا أن اتفاق الثقافات الشعبية المتفرّقة حول العالم في اعتبار غيفارا كرمز أوحد لمطلق ثورة، يُعدّ الأمر الأكثر أهمية في موضوع "العدالة الاجتماعية".
لم يكن غيفارا مجرّد رجل سعى إلى الخروج من طبقة الفلاحين بغرض الصعود على السلّم الاجتماعي، ليُصبح بورجوازياً ويقول لمحيطه "أنا هنا". لم يكن هذا هدفه، لا بل إن تشي "نزل" من عليائه الأرستقراطية، إلى المركب "غرانما" ومخر عباب البحر، للوصول إلى مداخل جزيرة يستحق شعبها ثورة. هافانا كانت تستحقّ تلك الرحلة.
ليست "الثقافة الشعبية" مجرّد درس يُقدّم إلى العالم، بل هو فعل تمارسه الشعوب بحق ذاتها، وغيفارا أدرك ذلك بقوله: "أنا لستُ محرِّراً، فالمحررون لا وجود لهم، بل الشعوب وحدها هي مَن تحرّر نفسها". وللتحرّر سبيل واحد: "لن يكون لدينا ما نحيا من أجله إذا لم نكن على استعداد أن نموت من أجله". أما الخوف، فلا يكون سوى في الاستسلام: "إنّ الثُوَّار ينتابهم الصقيع حين يجلسون على الكراسي ويبدأون هدم جهد الثورة. وهذا هو التناقض المأساوي: أن تناضل من أجل هدف معيّن، وحين تبلغه تتوقف الثورة وتتجمّد في القوالب. وأنا لا أستطيع أن أبقى متجمداً في المنصب ودماء الثورة تغلي في عروقي". وبما أن الثورة هي ابنة الانسان، فلن تكتمل إلا بانتصاره، فالانسان هو الوطن والغاية وإلا العدم والموت.