ومن الواضح أن المعارضة باتت تخشى من تركيز النظام في المرحلة المقبلة على جنوب وشرق العاصمة في محاولة لتأمين دمشق بشكل كامل، لتحسين مواقعه إذا اضطر للعودة مجدداً إلى طاولة التفاوض في جنيف. وأعلن جيش الإسلام، وهو أكبر فصائل المعارضة المسلحة في ريف دمشق، يوم السبت، عن مقتل العشرات من قوات نظام بشار الأسد ومليشيات طائفية وفلسطينية تساندها، بينهم ضباط، في الجولة الرابعة من معركة أطلق عليها اسم "ذات الرقاع".
وكان جيش الإسلام قد بدأ العملية خلال شهر أغسطس/آب الماضي بهدف مهاجمة قوات النظام والمليشيات التي تساندها وتحاول قضم المزيد من الجغرافيا في الغوطة الشرقية لتضييق الخناق على فصائل المعارضة المتمركزة فيها. كما أوضح جيش الإسلام، على حسابه في موقع "تويتر"، يوم الاثنين الماضي أنه قتل قرابة 225 عنصراً من قوات النظام، ومليشيات تسانده خلال المرحلة الرابعة من المعركة. كما تمكن من تدمير 8 دبابات، واغتنام دبابتين، وإعطاب 6 مدرعات، واغتنام أسلحة متوسطة.
وظهر رئيس أركان جيش الإسلام، الرائد علي عبد الباقي، في مقطع فيديو مستعرضاً جانباً من الأسلحة التي استولى عليها، إذ أشار إلى أن عملية "ذاع الرقاع" كانت على أربع مراحل. اثنتان منها في منطقة المرج، والثالثة في منطقة القلمون شمال العاصمة دمشق، والرابعة على مشارف تل الصوان، وحوش نصري، وميدعا، والبحارية، وحوش الفارة. وأعلن سيطرة جيش الاسلام على خمسين نقطة خلال مراحل العملية. كما لفت جيش الإسلام، في بيان أصدره، إلى سيطرته على نقاط استراتيجية في المحور الشرقي لجبهة ميدعا – تل صوان، وعلى نقاط بالجهة الغربية والجنوبية الغربية للواء 93، المعروف بلواء الكيمياء، وكتلة مزارع على المحور الشرقي بين كتيبة الإشارة في بلدتي الريحان، وحوش الفارة.
وجاءت معارك المرحلة الرابعة من "ذات الرقاع" بعد أيام فقط من خروج المعارضة بشكل كامل من مدينة داريا عقب حصار دام أكثر من أربع سنوات. كما أتت بعد أيام من اضطرار المعارضة إلى الموافقة على اتفاق هدنة في معضمية الشام يفضي إلى خروج مقاتلين ومدنيين رافضين للهدنة من المدينة باتجاه محافظة إدلب في شمال سورية.
وتوقع مراقبون أن يركز النظام في المرحلة المقبلة على جنوب دمشق. وفي السياق، ذكرت مصادر أن هناك مفاوضات غير مباشرة تجري منذ بعض الوقت بين النظام وبين جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) لإخراج مقاتليها من مخيم اليرموك. كما يحاول النظام التوصل إلى اتفاق مماثل يفضي إلى خروج مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذين يسيطرون على جانب من المخيم.
تحييد النظام للغوطة الغربية لدمشق يتوقع أن يجعله يكثف محاولاته لتحييد الغوطة الشرقية التي لطالما كانت الشوكة في خاصرته منذ الأيام الأولى للثورة. وباءت جميع محاولات النظام لتركيع أهالي الغوطة واستعادة السيطرة عليها بالفشل، بما في ذلك استخدامه الأسلحة الكيماوية في منتصف عام 2013 ما أدى إلى مقتل مئات المدنيين أغلبهم أطفال. كما عمد النظام إلى فرض حصار محكم عليها منذ أواخر عام 2012، فضلاً عن ارتكاب مجازر متنقلة من خلال القصف الجوي، لا سيما في مدينة دوما كبرى مدن الغوطة الشرقية.
وتبدو مهمة نظام الأسد صعبة للغاية في إجبار الغوطة الشرقية على توقيع اتفاق هدنة أو تهدئة، لا سيما أن الفصائل المقاتلة لا تزال تحتفظ بقدراتها العسكرية. وتمتلك المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية العدة والعتاد اللذين يتيحان لها ليس الدفاع عن نفسها فقط بل أيضاً مهاجمة مواقع قوات النظام والمليشيات، واغتنام أسلحة العدو وقتاله بها، كما حدث في معركة "ذات الرقاع". كما توجد أراض زراعية في الغوطة يعتمد عليها السكان في معيشتهم. وكانت قوات النظام ومليشيات تساندها منها ما يُسمّى بـ "جيش التحرير" الفلسطيني قد استغلت خلافات دموية بين فصائل المعارضة في الغوطة أواخر العام الماضي، وتقدمت على حسابها مستعيدة السيطرة على مواقع هامة منها بلدة مرج السلطان، ومطارها العسكري بعد ثلاث سنوات من سيطرة قوات المعارضة عليها. كما سيطرت على مزارع كان سكان الغوطة يعتمدون عليها في زراعة ما يحتاجون إليه من خضروات. وتمكن النظام عبر هذه الخطوات من تحصين مطار دمشق الدولي أكثر، بعدما كانت فصائل المعارضة تهدد حركة الملاحة فيه بين وقت وآخر.
ووفقاً للمحلل العسكري، العميد أحمد رحال، الذي تحدث إلى "العربي الجديد"، فإن فصائل المعارضة في الغوطة الشرقية "تحاول تحسين صورتها اثر إنتقادات وجهت لها لأنها لم تقدم الدعم لجبهة داريا لمنع سقوطها، وبسبب الخلافات الدموية فيما بينهما والتي أدت إلى مقتل وإصابة المئات من عناصرها". وأوضح رحال أن فصائل المعارضة تحاول استعادة الأراضي الزراعية التي خسرتها قبيل دخول فصل الشتاء للتخفيف من آثار الحصار على المدنيين، لا سيما أن هذه المزارع تعد سلة الغذاء للغوطة الشرقية. وأشار إلى عدم قدرة النظام على تكرار سيناريو الغوطة الغربية في الشرقية. وأضاف "هي منطقة كبيرة تملك فصائلها قدرات عسكرية كبيرة قادرة على مواجهة قوات النظام والمليشيات". وبحسب رحال، فإن النظام يبدو عاجزاً أمام الغوطة الشرقية "إلا إذا ارتكب مجازر بحق نحو مليون مدني يتواجدون فيها، وهذا أمر لا يستطيع القيام به بسبب الظروف الدولية المتعلقة بالصراع".
من جهته، أكد المتحدث العسكري باسم جيش الإسلام، حمزة بيرقدار، في تصريحات إلى "العربي الجديد" أن عملية "ذات الرقاع" قلبت الكثير من الموازين، وغيرت المخططات التي كان يرسمها الأسد ومليشياته في الغوطة الشرقية. وأشار بيرقدار إلى أن قوات النظام والمليشيات كانت "تنوي التوغل على شكل رأس حربة داخل الغوطة الشرقية وتحديداً من المحور الشرقي، والجنوبي الشرقي". وأوضح أن قوات الأسد والمليشيات الداعمة لها "ظنت أنها ستُخضع أهل هذه المناطق لسيناريو جديد شبيه بسيناريو داريا والمعضمية، أو على أقل تقدير تحقق انتصاراً في السيطرة على كتيبة الإشارة في بلدة الريحان، وحصار قواتنا المرابطة على جبهة تل كردي، وسجن النساء"، مؤكداً أن "ذات الرقاع أفشلت خطة قوات النظام".
وبحسب مراقبين فإنه لا يمكن عزل ما يجري في الغوطة الشرقية لدمشق عن مجمل التطورات العسكرية والسياسية التي يشهدها الملف السوري. وبالنسبة إليهم تسعى جميع الأطراف إلى تحسين مواقعها في أي تفاوض مقبل ربما يفرضه اتفاق روسي أميركي يعمل عليه الطرفان الدوليان من أجل تمهيد الطريق أمام عودة التفاوض على حل نهائي بين النظام والمعارضة.
وباتت المعارضة مدركة أنه لم يعد بإمكانها التراجع أكثر في محيط العاصمة دمشق، لأن ذلك يعني المزيد من الإملاءات على طاولة المفاوضات من قبل النظام وحلفائه، لا سيما في ما يتعلق بمصير الأسد وأركان نظامه. واعتبر مراقبون أن خسارة النظام للمئات من عناصره في الغوطة خلال أيام أكدت أن المعارضة لا تزال قادرة على "إيلام" النظام في مواقعه، وأنه لن يكون آمناً في العاصمة، وأن توقيع هدن في غربها لا يعني أنه بالإمكان استنساخها في شرقها. ووفقاً للمراقبين أنفسهم، فإن في ذلك رسالة واضحة مفادها أن أي حل سياسي مستقبلي لن يكون على حساب المعارضة خصوصاً لجهة المبادئ الأساسية للثورة، وفي مقدمتها أن لا دور للأسد في مستقبل سورية، لأنه من الصعب عليه وعلى حلفائه الروس والايرانيين الحسم عسكرياً في البلاد. أما الرسالة الثانية فهي أن العاصمة دمشق في مرمى نيران المعارضة من الغوطة الشرقية.