غوزمان وتشيلي: شاعرية السينما الوثائقية

10 يناير 2020
باتريثيو غوزمان: هاجس البلد وتاريخه (يوتيوب)
+ الخط -
منذ 46 عاماً، بعد استيلاء الديكتاتور أوغوستو بينوشيه على السلطة في تشيلي، بانقلاب عسكري على الحاكم المنتخَب ديمقراطياً سلفادور الليندي، قرّر مخرج الأفلام الوثائقية باتريثيو غوزمان (1941)، الذي كان لا يزال في بداية مسيرته، مغادرة بلده، حفاظاً على حياته، في ظلّ القتل والتغييب والترويع، السائدة تلك الفترة. ورغم هجرته الاضطرارية، "لم أتوقّف عن التفكير ببلدي، وعن صنع الأفلام عنه" كما قال، فحقّق مسيرة طويلة، تؤرّخ بلده والانقلاب العسكري، ثم عودة الديمقراطية إلى السلطة، والقبض على بينوشيه.

عام 2010، بدأ الفصل الأهمّ في تاريخه السينمائي كمخرج، بفضل ثلاثيته المعنونة بـ"الصحراء والماء والجبال"، التي تربط بين أماكن محدّدة في تشيلي، بتاريخها النضالي ضد الديكتاتورية، بحسّ شخصي وشعريّ. أول أفلام الثلاثية هو Nostalgia De La Luz ("نوستالجيا النور"، 2010)، عن صحراء "أتاكاما"، المدفونة فيها جثث معتقلين سياسيين؛ تلاه El Boton De Nacar ("زرّ أم اللؤلؤ"، 2105)، عن بحر منطقة "باتونيجا"، الذي ألقيت فيه جثث معارضين؛ خاتماً إياها بـ La Cordillera De Los Suenos ("سلسلة جبال الأحلام"، 2019)، الفائز بـ"جائزة العين الذهبية" كأفضل فيلم وثائقي، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي، والمعروض أخيرا في الدورة الـ12 (6 ـ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ"بانوراما الفيلم الأوروبي" في القاهرة.


يتبع غوزمان، في جديده هذا، الأسلوب والبناء نفسيهما، بدءاً من الطبيعة الخلابة لجبال "كورديلّيرا"، متحدثاً بشاعرية مفرطة عما يربطه بها شخصياً، وعن نظرته إليها، باعتبارها جبالاً راسخة وشاهدة على التاريخ، قبل أن ينسحب ببطء من هذا الحسّ الجغرافي الشاعري، إلى حاضر تشيلي وماضيها القريب، وإلى "كورديلّيرا" والبيوت والشوارع والناس، وإلى ما يذكره الجميع عن أنفسهم وعن نضالهم ضد السلطة. وهذا عبر حكايات الأشخاص، وتسجيلاتهم المصوّرة عن تلك الفترة، التي يبدو غوزمان فيها كأنّه يحاول إعادة تشكيل ذاكرته عمّا لم يره.


هناك عيب وميزة في هذا الفيلم. يكمن العيب في عدم قوة وحضور الجانب الذي يخصّ الطبيعة، بشكل مربوط بصلب القصة، كما في الفيلمين السابقين، اللذين يرتبط المكان فيهما بأجسادٍ مدفونة/غارقة فيه. بالتالي، وعند ظهور شخصية يصوّرها غوزمان، وهي لا تزال تبحث عن رفات ابنها في تلك الصحراء الشاسعة، فإن ربط المكان الساحر بالمأساة التاريخية والجانب الشخصي شديد الوضوح. في "سلسلة جبال الأحلام"، يُفتقد الربط المادي، ويبذل غوزمان، بلغته السينمائية والكلامية كراوٍ، جهداً كبيراً لخلق ربط شاعري بالجبال الشاهقة، التي ترى كلّ شيء، وبالذاكرة.



صحيح أن الأمر لن يُعيق المتابعة، خصوصاً بعد مشاهدة الفيلمين السابقين، فتمنح المُشاهدة دراية بأسلوب المخرج، إلا أنّه يبقى أقلّ متانة. أما الميزة، فهي أن غوزمان يمنح، للمرة الأولى، إمكانية رؤية التاريخ، المسموع عنه كثيراً في الثلاثية، عبر شخصية فرانشيسكو غازيتونا، المخرج والصديق القديم لغوزمان، الذي اتّخذ خياراً مغايراً يتمثّل ببقائه في تشيلي، والمخاطرة بحياته أثناء تسجيل وتوثيق المظاهرات والاعتقالات، وكلّ ما يمكن تصويره من ممارسات سلطة بيونشيه ضد الناس. الفيلم يحمل المادة الأرشيفية المسجّلة على خام 8 و16 ميليمتراً، فتؤثّر بالمُشاهد الذي "يرى"، محمّلاً الفيلم صوتين، لمن بقي ولمن غادر، وتساعد غوزمان في ختم ثلاثيته بلملمة ذاكرته، والاحتفاء بنضال طويل لأقرانه، والحفاظ على ذكراهم، وغلق الصفحة، ومواصلة الحلم بمستقبل أفضل لبلده، كما يقول في الختام.
المساهمون