ربّما الأمر مستغرب لدى كثيرين، لكنّ صعود أهالي غزة إلى الطائرة أمر يستحقّ التوقّف عنده. فأبناء القطاع المحاصر، معظمهم، لم يفعلوا ذلك في يوم... مطارهم معطّل.
في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2001، دمّر الاحتلال الإسرائيلي مطار غزة الدولي، أو مطار ياسر عرفات الدولي، الأمر الذي جعل سفر سكان القطاع المحاصر أمراً صعباً. وصاروا مضطرين إلى الانتقال إلى مصر من خلال معبر رفح البري ومن ثمّ التوجّه إلى مطار القاهرة للانطلاق صوب وجهتهم في حال كانت أبعد من مصر. هكذا، حُرمت النسبة الكبرى من الغزيين من اختبار ركوب الطائرة.
ثمّة غزيون نجحوا في السفر جواً بعد عناء، وما زالت ذاكرتهم تحتفظ بتفاصيل المرّة الأولى. مِنهم مَن يصف الأمر بـ"رحلة العمر" المليئة بالتشويق، بينما لا ينسى آخرون أياماً متعبة عدّة قضوها عند معبر رفح قبل أن ينجحوا في مسعاهم. وقد شارك هؤلاء - بعضهم - قصصهم على صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. محمد أبو حميد (29 عاماً) من هؤلاء، ويخبر "العربي الجديد" أنّه وصل إلى مطار القاهرة الدولي في 15 فبراير/ شباط الجاري، بعدما قضى ليلتَين على طريق معبر رفح البري. ويشرح أنّ "الخروج من القطاع كان صعباً، واضطررنا إلى اجتياز حواجز أمنية عدّة. لكن بعد الوصول إلى المطار والصعود إلى الطائرة المتجهة إلى العاصمة الإسبانية مدريد، بدأت أشعر بإحساس غريب، كأنّها بداية الحرية".
انتظار في رفح قبل "رحلة العمر" (محمد الحجار) |
يضيف أبو حميد: "عندما صعدت إلى الطائرة، بدأت دقات قلبي تتسارع، وشعرت بشيء من الرهبة والسعادة في الوقت نفسه. كنت أشبه بطير في السماء، ورحت أتذكّر أعوام دراستي الأربعة في كلية الهندسة وتلك التي قضيتها بالبحث عن فرصة عمل، وكذلك أحداث الانتفاضة في عام 2000 وسنوات الحرب على غزة. كانت المشاهد تمرّ في ذاكرتي كشريط. وتذكّرت أنّني أحبّ فلسطين، وأنّها سترافقني في رحلتي". ويتابع أبو حميد: "عند وصولي إلى مطار مدريد باراخاس الدولي، رحت أحكي للناس عن رحلتي في الطائرة والرهبة التي شعرت بها، بينما كانوا هم ينظرون إليّ باستغراب". هؤلاء لم يفهموا ماذا يعني للغزيين، خصوصاً الشباب منهم، الصعود إلى طائرة.
من جهته، اختبر أبو وهبة (27 عاماً) الطائرة للمرّة الأولى قبل أقلّ من شهرَين. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه "عند الساعة الخامسة فجراً من يوم الخامس من يناير/ كانون الثاني الماضي، أقلتني سيارة أجرة حتى بوابة معبر رفح البري. كنت متشوقاً جداً للصعود إلى الطائرة. عند الساعة الثانية من بعد الظهر، عبرت الحدود عند رفح. دخلت إلى الصالة المصرية ورحت أنتظر مناداة اسمي". يضيف أنّ "رحلتي كانت مليئة بالحواجز الأمنية واضطررت إلى النوم عند المعبر ليلتَين قبل أن أبلغ أخيراً القاهرة وأصعد إلى الطائرة وأنا أبكي".
متى يحين دوره؟ (محمد الحجار) |
ويتابع أبو وهبة: "كنت أتمنّى أن يكون ثمّة مطار مستقلّ في فلسطين أستطيع السفر انطلاقاً منه والعودة إلى أهلي عبره بسرعة". ولا ينسى كيف شعر "بحرية كبيرة عندما أقلعت الطائرة وراحت تحلق في السماء متّجهة الى العاصمة الباكستانية إسلام أباد. هناك أتابع دراسة الماجستير". ويشير أبو وهبة إلى أنّ "غزة بدت صغيرة بالمقارنة مع ما شاهدته. لكنّني رحت أستعيد أحداثاً كثيرة وأقول إنّ تلك البقعة الصغيرة تشغل العالم بأسره في بعض الأحيان، بأخبارها وصورها ومجازرها. هي صغيرة لكنّها في الوقت نفسه جميلة وقوية". ويردف: "العالم شاسع، فدعونا نبحر فيه ونخرج من الحصار الإسرائيلي المطبق علينا".
أمّا بشار مهاني (34 عاماً) فيخبر في السياق أنّه وصل إلى مطار القاهرة الدولي بعد 48 ساعة انتظار واجتياز حواجز مصرية عدّة من معبر رفح حتى مدينة القاهرة. يقول لـ"العربي الجديد": "في المطار، جلست بالقرب من مواطن مصري ورحت أسأله عن رحلة الطائرة التي كنت سوف أختبرها للمرة الأولى. ولا أنسى كيف تعجّب من حماستي الكبيرة". يُذكر أنّ مهاني عاطل من العمل منذ 10 أعوام، "وقد عانيت الفقر والحصار والحروب المتتالية، بينما طرقت باب عشرات المؤسسات لأجد أنّ الوساطة والمحسوبية هما الأساس. فعملت في مهن مذلّة قبل أن تقوم والدتي ببيع ما تملك من مصوغات حتى أتمكّن من السفر وشقّ طريق جديد".
عندما صعد مهاني إلى الطائرة، أصرّ كما كثيرون من الغزيين على الجلوس بمحاذاة واحدة من نوافذ الطائرة، "ورحت أراقب الغيوم وحركة الطائرة. تمنّيت لو أستطيع رؤية الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 من الطائرة التي كانت تتّجه إلى مدينة إسطنبول التركية". ويؤكد أنّ "تلك الرحلة كانت رحلة العمر". ويشير معاني إلى أنّ "الحواجز من معبر رفح البري وحتى مدينة القاهرة مزعجة جداً، فيتأخّر بلوغنا الحلم. لكنّني في الطائرة، شعرت بأنّني نسر كبير يحلّق في السماء من دون حدود. وصرت أردّد: كم أنّ العالم كبير"!