غزة .. إذ تتجاوز المكان

08 اغسطس 2014
+ الخط -
تحوّل اسم غزة من مجرد لفظٍ يدل على مكان/ جغرافيا إلى لفظ كثير المدلولات في الواقع العربي المعاصر والمحاصَر. صار الاسم ثلاثي الحروف حاضراً بكثافة في مؤسسات صنع القرار في دولة الاحتلال، في أروقة الأنظمة العربية، في تقارير استخباراتها، في وسائل الإعلام التقليدي والجديد، بل حتى في الأدب والشعر وأحاديث المجالس... صار هناك مَن يتحدث في غزة ويسمع بها، وهو لا يعرف حتى موقعها في خارطة الجغرافيا!
لا ينال اسم مكان كل هذا الحضور لأنه مجرد اسم مكان في هذه الجغرافيا، بل لأنه صار أكثر من ذلك بكثير، لأنه صار مشحوناً بالدلالة والمعنى، ولأنه اقتحم عوالم أخرى. يظلّ اللفظ كما هو "غزة"، لكنه يخلق له في علاقة (اللفظ/ المعنى) سيرة استثنائية.
منذ نهاية العام 2008 إلى يوليو/ تموز 2014، كانت غزة الساحة التي دارت فيها رحى معارك الحرب ضد عدو العرب، في عصر ما بعد الاستقلال. لكن، خلال هذه الحروب، لم تكن غزة تواجه إسرائيل فقط، بل كانت تواجه النظام الرسمي العربي. في جولة 2014، كان هذا النظام في أقصى حالات انحيازه ضد غزة، وكانت غزة في أقصى حالات بسالتها، كانت تواجهه وتواجه إسرائيل، وتواجه الوهن الكبير الذي أصاب المجتمعات العربية.
كانت غزة، بالتجارب المتعاقبة، الدلالة التي تشير إلى أن المجتمع العربي الهش الذي لا يتحمل الصدمات قد اختفى، وهي الدلالة، أيضاً، على أن المقاتل الفلسطيني الطائش انتهى عصره، وهي الدلالة، أيضاً، على أن نزع سلاح الفلسطينيين من أيديهم صار أصعب، لأنه صار في عقولهم.
طبيعة المقاومة ووظيفتها تناقض طبيعة النظام العربي ووظيفته... النظام الهشّ، النظام الطائش، النظام الذي يعتمد على الخارج، حتى في شرعيته ويقدم لهذا الخارج، ومن أجل هذه الشرعية، قرابين من نوع الحرب على الإرهاب، السلام في المنطقة، نزع أسلحة نوعية... بينما كانت شرعية المقاومة هي قضيتها الوطنية.
كان النظام الرسمي العربي يرصد الحرب على غزة بثلاثة أعين: التي ترصد أثر وحشية الآلة العسكرية للاحتلال في قتل المدنيين على المقاومة، وإلى أي مدى يمكن أن يوجع هذا القتل المقاومة ويربكها، وإلى أي مدى يمكن أن يجعلها تخسر حاضنتها الشعبية. الثانية كانت ترصد حجم الدمار الذي يمكن أن يُحدثه العدوان على البنية التحتية للقطاع، الواهنة أصلاً، وعلى مساكن الأهالي. كانت الجرافات الإسرائيلية تجرف حتى الإسفلت والأرصفة وتقتلع
الشجر... كان هذا الدمار مهمّاً ليجعل الجناح السياسي للمقاومة يلهث خلف إعادة الإعمار، ويقبل بشروط حارس المعبر وحلفائه. العين الثالثة كانت ترصد الضربات التي تصيب جهاز المقاومة وإمكاناته، وللضرر الذي يلحق بالأنفاق والقدرة على إطلاق الصواريخ. بالمجمل، كان النظام الرسمي العربي يعدّ الأيام، لكي يجعل المقاومة تخسر عسكرياً وتضعف في التفاوض، وتفقد قاعدتها الشعبية. كان هذا النظام يسعى إلى مثال في ذهنه.. إلى عالم بلا مقاومة.
لكن الواضح أن النصر العسكري قد فات على جيش الاحتلال الذي لم يعد قادراً على حماية تل أبيب، فضلاً عن المغتصبات الأقرب إلى غزة. وحشية الاحتلال في القتل عادت بنتائج عكسية عليه، حيث زاد تعويل الناس على المقاومة ونقمتهم على إسرائيل وحلفائها، بل إن هذه الوحشية ستكلّف إسرائيل حملة دعائية وسياسية، لتحسين صورتها في العالم، ولإعادة سفراء بعض الدول إلى تل أبيب. أما الجناح السياسي للمقاومة، فلا يبدو متلهّفاً لعطايا الإعمار المشروط. فسلاح المقاومة ليس مطروحاً حتى للتفاوض، فالحصار اعتداء ومن أشكال الحرب، وغزة لن تدافع عن نفسها في وجه موت سريع بالنار لتستسلم لموت بطيء بالجوع والحصار.
إن غزة تتجاوز حقاً اسم الجغرافيا، لتكون كاشفةً النظام الرسمي العربي، وهو يرتد شرساً قبيحاً في الثورة المضادة على الربيع العربي، لتكشف غزة هذا النظام الموبوء بحساباته الخاصة والارتهان للآخر، والاغتراب عن الأمة وقضاياها.
غزة تتجاوز اسم المكان لتخبر عن أن الفلسطيني صار يقاتل بمهارة وصبر عن أرضه، ولا ينزح عنها من أول قذيفة هاون، وأنه صار يعرف درب التحرر الذي لا يمر بالتأكيد بمؤسسات دولة دون دولة على الأرض، ولا يُنال بأموال المانحين.
غزة تتجاوز اسم المكان، لتصير الكاشفة لوهن سردية "كراهية الذات" والقابلية للهزيمة قبل الهزيمة، والتي أشاعت، طوال عقود، أن الكائن الآتي من أوروبا لا تمكن هزيمته.
غزة تتجاوز اسم المكان، لتكون فاضحة مؤسسات النظام العالمي والشرعية الدولية التي صارت تذرف الدموع على جنود ذاهبين للقتل.
غزة تتجاوز اسم المكان، لتعطي نفحة للربيع العربي، وتهز بقوة عرش الحصار، حصار غزة وربيع العرب.
7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".