غرينسبان وديون مصر الخارجية

21 مارس 2018
تسارع المديونية في 4 سنوات (محمد الشاهد/ فرانس برس)
+ الخط -

عام 1987، اختار الرئيس الأميركي وقتها رونالد ريغان، آلان غرينسبان ليكون على رأس المؤسسة الأقوى في اقتصاد أميركا، مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي)، فحظي الرجل بالمكان، واستمر في منصبه على رغم تغير الرؤساء.

ذهب ريغان، وجاء بوش الأب، ثم ذهب بوش وجاء كلينتون، ومن بعده بوش الابن، ومع كل هؤلاء استمر غرينسبان في منصبه، واحتفظت كلمته بنفوذها وسطوتها، في مجتمع لا يحترم إلا القوي، مهما كان منصبه.

استمر غرينسبان في المنصب لأكثر من 18 عاماً، تجاوز فيها انهيار الأسهم سنة 1987، في يوم الإثنين الأسود، بعد توليه منصبه بأسابيع قليلة، حين فقد مؤشر داو جونز الصناعي أكثر من 22% من قيمته في يوم واحد.

وأعاد كلينتون المنتمي إلى الحزب الديمقراطي تعيينه رئيساً للبنك الفيدرالي على رغم انتمائه للحزب الجمهوري، فساعده غرينسبان في إنفاذ برنامجه لخفض عجز الموازنة عام 1993، كما كان له دور كبير في حزمة الإنقاذ التي قدمتها الولايات المتحدة الأميركية للمكسيك، لإخراجها من أزمة العملة المكسيكية بين عامي 1994 و1995.

وبعد ذلك، قاد غرينسبان سفينة البنك الفيدرالي وسط عواصف انفجار فقاعة الإنترنت عام 2000، وتخفيض الضرائب بداية عام 2001، ثم أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 والفترة العصيبة التي تلتها.

ومع كل هذه الأحداث، كانت قرارات غرينسبان تُقابَل بالتصفيق معظم الأحيان، وكثيراً ما احتفى به الإعلام كأنه نجم من "نجوم موسيقى الروك"، على رغم أنه لم يُجر أي مقابلات إذاعية أو تلفزيونية طوال 17 عاماً الأولى من أصل 18 عاماً ترأس خلالها البنك المركزي.




ثم ترك غرينسبان البنك وهو على مشارف الثمانين، فاكتشف المؤرخون الاقتصاديون أنه كان المتسبب الأول في الأزمة المالية التي انفجرت بعد أقل من عام من تركه منصبه، وفي تكوين فقاعة الإنترنت، وفي أزمة الرهون العقارية، بل واتهمه بوش الأب بأنه كان السبب في خسارته انتخابات الرئاسة لفترة ثانية. وقالوا أيضاً إنه كان دائم التحريض على التخلص من الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

نعم. انتقد البعض غرينسبان عندما كان يضع سياساته، لكن شعبية الرجل منعت محاسبته بصورة سليمة على قراراته وسياساته التي ثبت بعد ذلك فشلها.

قبل يومين، كنت أتناقش مع أحد أهم رجال الاقتصاد في مصر، وربما في العالم، حول بعض الظروف الاقتصادية التي تمر بها الدول العربية، وتطرق الحديث إلى كيفية تمويل مشروعات التنمية في البلدان العربية، ومنها مصر.

قال لي صاحبي إن ضعف معدلات الادخار التي تقل عن 5% من الدخل القومي في الدول العربية، أوجد حاجة إلى الاقتراض الخارجي لتمويل مشروعات التنمية، خاصة مع انخفاض معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر في بلادنا، وعجز التمويل الحكومي عن الوفاء بالتزاماته في ما يتعلق بالاستثمار في التعليم والرعاية الصحية تحديداً.

استمعت إليه وأنا أفكر في حجم الديون الخارجية المصرية الحالي، والذي تجاوز 80 مليار دولار بنهاية عام 2017، والذي أُضيف إليه، وفقاً للبيانات الحكومية الرسمية، حوالي 8 مليارات دولار قروضاً جديدة خلال الفترة القصيرة التي مضت من العام الحالي 2018.

وسرحت في حسبة صغيرة، اعتبرت فيها متوسط معدل الفائدة على تلك القروض في حدود 4.5%، وأنا أعلم على وجه اليقين أن نسبة كبيرة من هذه الديون تتحمل فائدة أعلى من ذلك بكثير، فكانت النتيجة تحمّل موازنة الدولة نحو 4 مليارات دولار سنوياً، في صورة فائدة على الديون الخارجية وحدها. 

4 مليارات تُضاف إلى عجز ميزان المدفوعات كل عام!

عدت بعدها إلى المنزل وجلست لدقائق أستمع إلى الإعلامي المصري عمرو أديب، فوجدته يتحدث عن اقتراض الأفراد والحكومات، وكيف أن هذا الاقتراض يكون مبرَراً إذا كان يُنفَق في خدمة أهداف التنمية (أو على الأقل هذا ما أراد أن يقوله).

حاولت معرفة كم من هذه الأموال المقترضة يتم توجيهه نحو الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية، باعتبارهما أساس التنمية، وما حجم ما تم إنفاقه بالفعل في السنوات الأربع الأخيرة، وهي الفترة التي شهدت ارتفاع الديون الخارجية من حوالي 46 مليار دولار في نهاية يونيو/ حزيران 2014، إلى 80 مليارا في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2017، على هذين القطاعين، فلم أجد أرقاماً منشورة عن حجم الاستثمار فيهما، لكنني وجدت أن احتياطيات النقد الأجنبي تقدر بحوالي 20 مليار دولار، وهي مستخدمة في شراء سندات الخزانة الأميركية لآجال مختلفة وبمتوسط عائد في حدود 20%.

كما وجدت أرقاماً عن شراء طائرات فرنسية، وغواصات ألمانية، وأسلحة أخرى من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، ومشروعات كبرى سحبت مليارات الدولارات، كحفر تفريعة قناة السويس الجديدة (8 مليارات دولار)، مع اتفاقات استيراد غاز طبيعي بحوالي 15 مليار دولار، واتفاقات على برنامج نووي سلمي في الضبعة يتضمن اقتراضاً إضافياً يتجاوز 20 مليار دولار، فيما لم تظهر بادرة تطوير تعليم واحدة، اللهم إلا إدخال أغنية "قالوا إيه" إلى طابور الصباح في بعض المدارس، مع السماح بفاصل سريع من الرقص على أنغامها!

الديون الخارجية عبء كبير على أبنائنا. ولو كانت شراً لا بد منه، فلا بد من توافر الشفافية والمراجعة الدقيقة لجدواها، وأوجه إنفاقها، وكلفتها، ومصادر سدادها، قبل التورط في الحصول عليها، خاصة مع وجود ذكريات أليمة مع الديون الخارجية في فترات سابقة من تاريخنا.

فهل يأتي اليوم الذي نسمع فيه رداً من مسؤول مصري على هذه التساؤلات، أم يظل الأمر متروكاً لمقدّمي برامج التوك شو، مع غياب تام لأي مساءلة جادة من المجالس النيابية، وعلى من لم يكتف بذلك أن يتوجه ليشرب من أقرب بحر؟!
المساهمون