يرى المؤرّخ الأميركي غراي أندرسن، أن ما حدث عام 1958 في فرنسا لا يلقى الاهتمام الكافي من قبل المؤرخين، ولا حتى كمناسبة وطنية يُفترض أن يحتفي بها الفرنسيون ضمن ما يحتفون به من مناسبات تتعلق بحقوق الإنسان في تاريخ بلادهم منذ الثورة الفرنسية وصولاً إلى 1968، وهو العام الذي يلفت أندرسن إلى أنه يستحوذ على اهتمام الأكاديميين والمؤرخين والسياسيين والمنظمات المدنية.
في كتابه "الحرب الأهلية في فرنسا 1958 - 1962" (منشورات لا فابريك)، الذي صدر مؤخراً، يقول أندرسن إن ذكرى عام 1958 ليست مبعث ارتياح للمؤرخين، حتى على صعيد تسميتها، وكثيراً ما تظهر ملتبسة وغير واضحة تماماً في الرواية الرسمية.
يطرح المؤلف أسئلة حول الأسباب التي تجعل الأمر كذلك، كما يناقش إرث الأحداث التي وقعت في ذلك العام ونتائجها كما تنعكس على واقع فرنسا اليوم، متسائلاً: أي تاريخ فعلاً على فرنسا أن تحتفل به وهي تستعيد تأسيس الجمهورية الخامسة؟
حتى هذا مختلف عليه بين السياسيين والمؤرخين، فهناك من يفضل الرابع من أكتوبر حين أُقر الدستور، والبعض يرى أنه استفتاء 28 سبتمبر، وهناك من يعتقد أن تاريخ الاحتفال لا بد أن يرتبط بعودة شارل ديغول إلى السلطة في 29 أيار/مايو 1958.
يصف الأكاديمي الأميركي أحداث تلك الفترة بـ "الانقلاب" و"الحرب الأهلية"، بينما التاريخ الرسمي يصفها بـ "الاضطراب"، ويرى أن حجم العنف الذي وقع في تلك السنوات، سواء كان فعلياً أو مكتوباً في الصحف والمقالات خلال تلك الحقبة يجعل التوصيف الأقرب هو "الحرب الأهلية"، معتبراً، بهذا المعنى، أن ذكرى 1958 ملتبسة حتى على صعيد المصطلحات، لافتاً إلى نجاح الرواية الرسمية في التعتيم على حلقات من الدراما التي حدثت آنذاك.
يقف أندرسن، على وجه الخصوص، عند لحظة عودة شارل ديغول إلى الحكم، فيقول إن هناك انقساماً حول طريقة النظر إليه بين مخلّص لفرنسا في لحظة حساسة من تاريخها السياسي، فارس من دون مصلحة فوق مصلحة بلده، لينقذ البلاد في فترة دخلت حرباً مع ثوّار الجزائر وتعطّلت كل مؤسساتها.
من جهة أخرى، ثمة صورة سلبية لديغول بوصفه المتآمر الخفي الذي هندس الأحداث التي أدت إلى عودته إلى السلطة، مبيناً أن ثمة أدلة ومراسلات ووثائق تؤكد أن الاحتمال الثاني ليس مستعبداً أبداً.
يعتمد أندرسن على وثائق تاريخية، معظمها رسائل رسمية مأخوذة من محفوظات لمؤسسات مختلفة ومقالات صحافية ومذكرات، ويضعها وفق خطة كرونولوجية، ليُظهر كيف تمكن ديغول ومؤيدوه من زعزعة استقرار نظام الجمهورية الرابعة، مستفيداً مما كانت تطلق عليه فرنسا "أحداث الجزائر".
استغل ديغول، وفقاً للكاتب،استياء جزء من الجيش كان يشعر أنه غير مدعوم بما يكفي من قبل السلطة السياسية. وفي أيار/مايو 1958، طالب جنرالات الاستعمار في الجزائر باستقالة الحكومة ووصول الجنرال ديغول إلى السلطة، وأتاح هذا الانقلاب للبطل السابق للحرب العالمية الثانية تأسيس الجمهورية الخامسة.