من المعلوم أن تجربة الاعتقال في أوروبا إبان النصف الأول من القرن العشرين كانت إحدى التمظهرات الأبرز للديكتاتوريات الفاشية والنازية، التي عمدت للشدة في تعاملها مع المعارضين لها من الحركات والأيديولوجيات السياسية، فضلاً عن أتباع بعض المذاهب العقائدية والمكونات المجتمعية، بالحديد والنار.
وصلت هذه الشدّة إلى المفكّرين والمنظّرين أيضاً. تكفي الإشارة هنا إلى علمين في الفكر الإنساني طاولهما الاعتقال وهما الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) والفرنسي لوي ألتوسير(1918-1990)، ففضلاً عن كونهما منظّرين ماركسيين، فقد جمعتهما تجربة مريرة من السجن والاعتقال، تركت آثارها عليهما وطبعتهما ببصمتها ما عاشا من سنين.
رغم تفاوت تجربتي الاعتقال لا يمكننا بحال أن نقارن بينهما وأن نعرف كم أثرت هذه أو تلك على مشوار صاحبها وأعماله، فيما تظل الفروقات بين الشخصيتين عاملاً حاسماً في تمثّل كل طرف لتجربته السجنية، فالأول بنى ثقافته خارج السجن، واضطلع بدور ريادي على الصعيدين الاجتماعي والسياسي قبل الاعتقال، من ثم، انتهى به الحال في السجون الفاشية، وحين أفرج عنه سرعان ما ستنتهي حياته بعد مدة قصيرة.
أما ألتوسير، فقد كانت تجربته مع الاعتقال في مقتبل شبابه، أي قبل اكتماله الفكري والثقافي، ومن ثمّ تركت لديه آثاراً عصبية عميقة وكارثية رافقته كل حياته، ولكن مركز الثقل في مسيرته الفكرية كان في الجامعة.
تجربة السجن التي دامت لأكثر من عقد من الزمان (1926 - 1937)، لم تفت من عضد غرامشي، أو تثنيه عن جهوده في بث الوعي، ومواجهة الفاشية وهو قابع في معتقلاتها، وعلى الرغم من المعاناة في السجن التي تسببّت له في أمراض عدة - وهو الذي كان هشّ الصحة منذ طفولته - فقد انبرى لكتابة أبحاث وتحاليل عدة فضلاً عن رسائل إلى أمه ورفاقه في الحزب الشيوعي الإيطالي، والتي جُمعت بعد ذلك وأطلق عليها اسم "دفاتر السجن" وباتت أبرز أعماله وأشهرها.
هذا ومع انعدام المراجع التي يمكن أن يركن إليها في أطروحاته، اعتمد غرامشي على ذاكرته في الأبحاث التي اشتملت على تكوين الروح المدنية في القرن التاسع عشر، ودراسات أخرى اعتنت بتاريخ إيطاليا والتفاوت الاجتماعي فيها، وأخرى فلسفية وغيرها، واضطر في مناسبات كثيرة إلى اصطناع مفاهيم خاصة به لمواصلة التفكير.
بالاضافة إلى هذا نشأ عند غرامشي تعريف محدد للمثقف هو "المثقف العضوي"، إذ رفض التقسيم المتعارف للمجتمع كفئتين تتمثلان بالشغيلة اليدويين والشغيلة المفكرين، على اعتبار أن كل عمل يدوي يتطلب ولو حداً أدنى من النشاط الفكري، ونختصر دور المثقف العضوي لديه في توفير تصوّر للعالم أو الأيديولوجيا بالفئة التي ينبثق منها، وأن يحرّر الأيديولوجيا من الأفكار القديمة والبالية التي سبقت ظهورها. هذا وللمثقف العضوي استقلال ملموس عن الفئة التي يرتبط بها، ويعود ذلك إلى وظيفته كمحقق لتجانس الوعي الحقيقي.
هذا ويسطر غرامشي مفهوماً خاصاً للمثقف التقليدي على اعتبار النظرية التاريخية لتبلوره، وهو المثقف المنتمي إلى طبقات اجتماعية هشة وعلى طريق الزوال، ويرى في رجال الدين والكنيسة مثالاً على هذا المثقف التقليدي، ويقول في ذلك غرامشي: "كل مجموعة اجتماعية بنشوئها في تاريخ البنية الاقتصادية السابقة لها وكتعبير عن تطوّر البنية وجدت على الأقل في التاريخ المعروف حتى الآن، فئات مثقفين موجودة قبلاً، بل وكانت هذه الفئات تبدو كممثلة لاستمرارية التاريخ غير المنقطعة وحتى من قبل التحوّلات الأكثر تعقيداً وجذرية للأشكال السياسية والاجتماعية".
أما بالنسبة لألتوسير، فقد انضم عام 1937 إلى منظمة الشبيبة الكاثوليكية قبل انتقاله إلى الماركسية، وجنّد في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، وسجن في معسكر ألماني لأسرى الحرب، قضى باقي سنوات الحرب فيه، وأدت هذه التجربة لإصابته باختلال عقلي ونوبات من الاضطراب النفسي استدعت في ما بعد علاجاً بالتخليج الكهربائي، وقد سمح له في فترة الدراسة بالإقامة في غرفة خاصة بعيادة المدرسة، ودخل عدة مرات إلى مستشفى الأمراض العقلية، وانتهى به الأمر إلى قتل زوجته عام 1980، لكنه لم يعد إلى السجن بل إلى الحجز النفسي حيث كتب هذه التجربة في "المستقبل يستمر طويلاً".
يكاد يُنسى هذا الفصل من سيرة ألتوسير، ويظل في الغالب ذلك المنظّر الماركسي، فقد تمثل مشروعه في تضمين تسويغ فلسفي للمادية التاريخية، وفي تقديم المادية الجدلية على اعتبار كونها فلسفة للمادية التاريخية. أما أسلوب عمله فقد تمثل بإعادة قراءة ماركس، لا سيما كتابه "رأس المال". وقد اشتهرت فلسفته في فرنسا آنذاك بـ"البنيوية الماركسية"، والواقع أن ألتوسير لم يكن بنيوياً بالأساس، غير أنه استخدم المصطلحات البنيوية، واعتُبرت نظريته، لفترة ليست بالطويلة، الأساسَ في تركيب ثوري ضم البنيوية والماركسية، ونالت انتشاراً واسعاً، قبل أن تفقد بريقها على حساب نظريات أخرى، من بينها التي أطلقها ميشال فوكو.