في خريف عام 2009، وقف شاب بلجيكي خجول أمام أحد بيوت العاصمة الإنكليزية لندن، وضغط متردّداً جرس الباب. فتحت له عجوز، فبادرها بسؤال مرتبك: "سيدتي، هل تسمحين لي بالرسم على واجهة بيتك؟". اندهشت السيدة من الطلب الغريب، فأقنعها الشاب: "لن يكلّفك الأمر شيئاً، جميع مواد الطلاء على نفقتي". بعد فترة، كان الرسم قد انتهى؛ سنجاب ضخم زيّن واجهة البيت التي تطلّ على شارعين، وجلب الرسم زوّاراً وسائحين للحي الهادئ يلتقطون صوراً للقطعة الفنية المبهرة، وهو ما فسّره الفنان لاحقاً بقوله: "حين أكون في بلد ما، لا أقحم حيوانات غريبة عليه، بل أنتقي ما ينتمي للبيئة التي أرسم فيها، السنجاب حيوان يشبه لندن، مثله مثل مقصورات الهاتف الشهيرة أو حافلاتها الحمراء ذات الطابقين".
في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان Codex، يقدّم لنا فنان الغرافيتي البلجيكي (روا) ROA رحلته مع رسومه التي صنعت له شهرة عالمية، ويعترف في مقدّمته للكتاب أنه لم يكن ليتخيّل يوماً أنه سيحقق هذه الشهرة التي يحظى بها اليوم، فها هي أعماله العملاقة تزيّن حوائط البنايات الضخمة في عدد من عواصم ومدن العالم الأهم، لتحتل رسوماته أماكنها المعروفة في أوروبا والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا وأستراليا: ثعالب وحيدة هاربة من ضجّة البشر، جمع فئران يفر من مجهول، غربان هادئة بعيون نصف مفتوحة، كأنها في لحظة غياب عن الوعي، لا يعرف الناظر إليها ما إذا كانت نائمة بسلام أم ميّتة منذ أمد بعيد، مرسومة كلّها بدقّة تشريحية تجعل العين تقف لتتأمّلها مليّاً، من موسكو إلى مكسيكو سيتي، ومن لوس أنجليس إلى استوكهولم، من طوكيو إلى فرانكفورت ومن سيول إلى نيويورك وسان باولو، وكلها رسومات بالأبيض والأسود لحيوانات مهددة بالانقراض في بيئاتها المحلية.
تضمّن الكتاب الذي جاء في 352 صفحة من القطع الكبير، ما يزيد عن 750 صورة لأعمال الفنان الغرافيتية، من خنزير مفتوح البطن على جدار أحد المصانع المهجورة في مدينة غينت البلجيكية مسقط رأسه، إلى تمساح عملاق مُلقى على ظهره في شوارع أتلانتا الأميركية، وافتتح الكتاب بمقدّمتين وافيتين عن تجربة الفنان، لكلّ من يوهان بريكمان أستاذ الفلسفة الحديثة في جامعة غينت، وفنان رسوم الشارع والأفيش الأميركي ر. جي. روشمور.
ROA فنان بلجيكي مجهول الهوية، يحتفظ باسمه الحقيقي سرّاً، في بداية العقد الرابع من عمره (يعتقد أنه من مواليد 1976)، لكنّه استطاع على مدى عشر سنوات كاملة الاحتفاظ بشخصيته الحقيقية منفصلة تماماً عن عمله الفني المثير للإعجاب، وهو ما يوضّحه في مقدمته قائلاً: "أن تكون مجهول الهوية لهو متعة خالصة، لم أفهم أبداً ولع هؤلاء المهووسين بالذات وتمجيدها على حساب أعمالهم، لا تهمّني الشهرة الشخصية، فعملي هو الأهم وليس شخصيتي".
أطلس قديم
يتضمّن الكتاب صوراً للوحات الجدارية التي رسمها ROA خلال حياته المهنية على مدى عشر سنوات، بعضها صغير وبعضها الآخر ضخم، وصل أحياناً إلى رسومات امتدت إلى 50 متراً طولاً وعرضاً، وكلّها رسومات غرافيتية لحيوانات مرسومة بدقّة تشريحية مذهلة، ومؤكّد ستتوقّف العين طويلاً وهي تلاحظ أن جميع هذه الحيوانات إمّا تنظر باندهاش وخوف إلى المجهول، وإمّا ميّتة أو متحلّلة أو ممزّقة، الأمر الذي يجعلنا نرى رسالة فنية تقف وراء تنفيذ العمل بهذه الطريقة، كأنّ الفنان قرّر أن يرينا هذه الحيوانات في لحظة رعبها واحتضارها الأخير.
وما يزيد من هذا الشعور أن ROA يرسم هذه الأعمال بطغيان كبير للونين الأبيض والأسود، لا يحضر الأحمر القاني إلا ليكون دماً أو أحشاء تخرج من بطن مبقورة، أو نافورة حمراء تخرج من عين محدّقة لإحدى الزواحف النادرة.
يتجوّل بنا الكتاب الأنيق بين الرسومات التي نفّذها ROA في أركان الأرض الأربعة، في صورة أطلس قديم مقسّم إلى أربعة أجزاء قاريّة، هي: أوراسيا والأميركتان وأفريقيا وأوقيانوسيا، كأنّ ROA أراد لنا أن نصحبه في رحلاته التي قام بها في أركان العالم، لنشاهد معه الأفعى التي تأكل ذيلها في مدينة دنيدن النيوزيلندية، ونمرّ على الدبّ الضخم الذي يشاكس ثوراً في مونتريال الكندية، قبل أن نتوقّف أمام رأس مهشم لحصان في سانتياغو عاصمة تشيلي، لننتهي إلى سناجب طائرة في سيول عاصمة كوريا الجنوبية. في غالبية رسوم ROA سنلحظ هذه النظرة القلقة لحيواناته وقوارضه، بل سنراه في أحيان كثيرة يتعمّد أن يرسم حيواناته في لحظات موتها أو تحلّلها، أو بعد أن تحولت إلى هياكل عظمية، في ما يبقي على رؤوسها لنرى نظرة الهلع الأخيرة في عيونها، وربما لذلك سنجد أن بعض أعماله غير مستساغة من قبل بعض محبّيه.
منذ الثالثة عشرة
من أين تبدأ قصة ROA مع فن الغرافيتي ورسوم الشارع إذن؟ "ربما في سن البلوغ المبكر"، يقول الفنان في حوار صحافي أجري معه مؤخراً بمناسبة صدور كتابه هذا، ويضيف: "بدأت رسوم الغرافيتي حين كنت في الثالثة عشرة تقريباً، وحينها جرّبت كل أنواع الرسم على الجدران، من كتابة العبارات السياسية الرنانة إلى الرسوم الكاريكاتورية الساخرة. عندما بدأت كانت لديّ فكرة واضحة عما يجب أن يكون عليه عملي. وكان للغرافيتي وقتها قواعده الخاصة، التي يصعب على مبتدئٍ مثلي الخروج عليها، من مخطّط تفصيلي وأحرف سميكة وتأثير ثلاثي الأبعاد، لكنّي الآن غيّرت من هذه الطريقة، وبدأت التفكير بشكل مختلف، ورأيت أن رسوماتي للحيوانات والقوارض بدأت تطغى على الكتابات والشعارات التي بدأت بها، لذلك بدأت في دراسة تشريح الحيوانات التي عشقت مجسّماتها منذ كنت طفلاً صغيراً، وحينها لاحظت أنني أكثر توافقاً مع ما أريد تحقيقه، ووجدتني أعود إلى الطفل الكامن بداخلي أكثر فأكثر عبر تنفيذي لهذه الرسوم".
إحياء الأماكن الميّتة
أعاد ROA الحياة إلى كثير من الأماكن المهجورة عبر اقتحامها برسوماته التي لاقت شهرة واسعة، فهو يرسم أحياناً على جدران المصانع المهجورة أو الشوارع الخالية من سكانها، لتتحوّل بعض هذه الأحياء التي هجرها أهلها، وصارت مأوى للمشرّدين ومن لا يملكون سقوفاً تحميهم مغبّة العراء، إلى أماكن تجذب الناس من جديد.
حدث هذا مع بحيرة سالتون في كاليفورنيا، التي تلوّثت بكميات هائلة من مبيدات الحشرات خلال ثمانينيات القرن الماضي، فصارت اليوم بحيرة مملّحة بالكامل، في كارثة بيئية تتكرّر كل يوم بسبب التلوّث ومخلّفات شركات صناعة المبيدات الكيميائية والأدوية الأميركية.
كانت هذه البحيرة تشكّل واحة حقيقية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لكنها صارت مكاناً يهرب منه الجميع بسبب تلوّثها البيئي، في هذا المكان رسم ROA هيكلاً متحلّلاً لسمكة على مقطورة مهجورة، وكانت هذه الرسمة سبباً لاستقطاب فناني الغرافيتي من جميع أنحاء العالم إلى البحيرة المشؤومة، لتدب فيها الحياة من جديد.
لعل حكاية بحيرة سالتون هذه تحمل في طياتها الكثير من المفارقة الساخرة، فلم يكن لأحد أن يتخيّل يوماً أن تعيد رسمة لسمكة ميّتة الحياة من جديد إلى هذا المكان المدمّر بيئياً، لكن ما حدث في بحيرة سالتون شكّل فصلاً جميلاً في رحلة نجاح ROA، ومهّد الطريق أمامه لرسم العديد من أنواع القوارض والحيوانات التي تأثّرت بما يفعله الإنسان من تدمير ممنهج للحياة على الأرض، وليس من الصعب على من يشاهد أعمال ROA أن يلمح هذا الاهتمام الاستثنائي بالطبيعة في أعماله، وكأنه في كل رسمة يقدّم لنا تحذيراً جديداً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
وعن هذه التجربة يقول ROA : "أفرح حين أعيد مكاناً مهجوراً إلى الواجهة من جديد، قديماً كنت أقصد حوائط المصانع والأبنية المهجورة، واعتبرت جدرانها هي أرشيف أو دفتر الرسم الخاص بي، ففيها يمكنني التجربة أكثر من مرّة، وإذا لم تكن النتيجة جيدة فلن يراها أحد، وكلّما أنهيت إحدى هذه الرسوم الضخمة، كنت ألتقط لها صوراً واتركها خلفي وأرحل، لتبقى الصورة الملتقطة هي كل ما تبقّي لي من هذه الرسوم العملاقة، كأنّها تذكار شخصي، وكنت مكتفياً بهذه الصورة البسيطة لعمل كبير أخذ منّي أياماً متواصلة من العمل والتلوين، إلى أن فوجئت بصور رسوماتي تنتشر على صفحات ومواقع الإنترنت، وهو ما نقل عملي إلى الساحة الدولية سريعاً، فبدأت تنهال عليّ دعوات للمشاركة في مهرجانات الغرافيتي حول العالم، وهكذا بدأت رحلتي خارج بلجيكا".
لم يكن لدى ROA صفحة شخصية على فيسبوك أو حتى حساب على إنستغرام، لكنه وجد من يقوم بنشر صوره على صفحات محبّي فن الغرافيتي على مواقع الإنترنت، فبدأت أسفاره تثمر عن رسومات بأحجام كبيرة على بنايات المدن الأبرز في العالم، ولعل من أهمها ذلك التمساح الضخم على أحد حوائط أبنية أتلانتا الأميركية، حيث وظّف ROA سلالم الحريق الملحقة بالمبنى من الخارج لتكون نهاية لذيل التمساح الملقى على ظهره، ليشكل هذا التمساح بدوره مرحلة أخرى من تطوّر رسوم ROA، حيث بدأ منذ ذلك الحين في توظيف نتوءات الجدران وزواياها الخارجية مع الرسوم التي يقوم بها، ليخرج الرسم وكأنه جزء من تصميم المبنى ككل.
بهذا المعنى، قدّم ROA عبر رسوماته العملاقة رؤيته لما يجب أن يكون عليه التفاعل البشري الحي مع البيئة والطبيعة المحيطة به، ليرتفع بفن الغرافيتي إلى أكثر من مجرّد كتابة الشعارات السياسية الرنانة، وهو ما أهّله إلى أن يحتل مكانة مرموقة وسط منافسيه، لتنتقل أعماله من المباني العملاقة إلى صالات العرض في جميع أنحاء العالم. كان من أبرزها مشاركته اللافتة في المعرض الأيقوني "Art in The Streets" بقاعة MOCA الشهيرة في لوس أنجليس عام 2011، ومنذ ذلك الحين يشارك ROA بانتظام في مهرجانات فن الشارع، ويتعاون من وقت لآخر مع صالات العرض العالمية.