غبرة

23 اغسطس 2014
في الحي الذي طار بصاروخ "سكود"، طار معه منزله(Getty)
+ الخط -

الصورة التي تلتقطها كلّ يوم لأولادها، على كورنيش المنارة في بيروت، لم تعد تحمل الكثير من الفرح، بعد عامَين على وصولهم. فالذكرى التي أرادتها عن "أيام" أمضوها في المدينة، قسراً، تحوّلت إلى واقع يومي، لا غنى عنه، فيما باتت البلاد، ذكرى تسكنها، كلما طال غيابها عنها.

يستعرض صورة الأم تلك، وتدمع عيناه. لكنّ مزاحه كالعادة يغلب ألمه، ويقلب الموقف فجأة إلى نوع من الكوميديا السوداء، يدخل الجميع فيها، بخاصة عندما يتحولون إلى عناصر في لعبته الحياتية المستمرة، منذ جاء إلى جحيم لبنان، هرباً من جحيم سورية.

يمضي يومه الطويل، عامل درزة في مشغل خياطة. يعمل بنشاط وكدّ مترافقَين مع سخريته المستمرة. لا يبالي بمشاعر أو يتأثر بلوم. يبدّل الأشياء ويتلاعب بطبيعتها، فتغدو المصائب في لسانه دعابة لا يملّ الآخرون سماعها، مهما أشعرتهم بالذنب، إن في استخفافها أو بلؤمها أو بوضعها الإصبع على الجرح... لكن بقسوة طبيب في أحد مخيمات اللاجئين.

ذلك حاله الجديد، الذي استكشفه كلاجئ في لبنان، بعد سنوات انشغال بتأسيس مستقبل زاهر، في مدينته الكبيرة حلب. في الحي الذي طار معظمه بصاروخ "سكود"، طار معه منزل عائلته ومشغله الذي أسسه قبل عشر سنوات. سنوات شهدت براعته التجارية، وقدرته على تكوين علاقات ناشطة، في رخاء المدينة وازدهارها... وسلامها.

يروي قصصاً كثيرة عن تلك الأيام التي تحولت إلى ذكريات. يحاول عبرها معاندة الواقع. فمنها عن العمل، والأصدقاء، والعائلة... عن زواجه المرتبط بعادات اخترقها. ذلك الزواج الذي تمّ صدفة من فتاة من خارج العائلة، فيما يفترض به الزواج بابنة عمه، بينما تتزوج أخته من ابن عمه. نقض ابن العم العهد، فلم يجد أمامه إلاّ الزواج من فتاة أخرى، حفاظاً على توازن الـ"تراني بعين.. أراك باثنتين".

عاد مؤخراً إلى الحيّ، وفي الطريق إليه، قفز من الميكروباص، بعدما حسب نقطة حمراء، لمعت في السماء، صاروخاً يستهدفه بالذات، فكانت مجرد إنذار خاطئ لشيء لم يتبينه. في الحيّ شهد آخر جدران منزل العائلة على سخريته الطارئة، حتى من نفسه. فقد صدم لمشاهدة ذلك الانقلاب في كلّ شيء، في الحياة نفسها، ومفهومها، ومعايشتها زخات المآسي.

لم تسنده ركبتاه، فاستلقى على ذلك الحائط حاملاً بيده دمية طفل ما، حاول أن يتعرّف على معالمها وهوية صاحبها من أبناء إخوته، فلم يسنده الجدار بدوره، وانقلب مثيراً موجة غبار طارئة على مكان هدأت أغبرته، منذ أيام القصف. حينها فقط ضحك ملء فمه المغبر، بينما كانت تعبر في خاطره، ذكرى طازجة عن حكمة لـ"أسوأ لم يأت بعد".
المساهمون