غابي قمر.. فنّان يصنع عوالم صغيرة في علبة راديو

16 أكتوبر 2016
"يا له من عالم صغير" (حسين بيضون)
+ الخط -

ثمّة أشياء جميلة تكتشف فجأة. هذا ما حصل مع اللبناني غابي قمر، الذي فضّل اعتزال الهندسة والمشاركة في بناء المدن، ليصنع عوالم صغيرة تحكي قصصاً.

"يا له من عالم صغير". هذا ما يقوله البعض حين يلتقون صدفة بصديق قديم، أو عندما تضيق بهم المدينة، أو ربّما عندما لا يعود الكوكب يتّسع لأحلامهم أو طموحاتهم أو أحزانهم حتى. بالنسبة إلى غابي قمر، هذا العالم كبير جدّاً. إلّا أنه يختار أن يهرب منه ليصنع بيديه عوالم صغيرة تناسبه أكثر.

في محترفه الصغير في شارع لبنان، في منطقة الأشرفية (بيروت)، يمضي نحو سبع ساعات يوميّاً تحت سقف من الحجر القديم. على طاولة خشبيّة، يضع أغراضه ومواده الأولية: كتب وخزائن وكنبات من الجلد وغاز وبرّادات وعلب طعام وتلفاز. كيف تتّسع الطاولة لكلّ هذه الأغراض؟ مهلاً. أصغرُ غرضٍ على الطاولة لا يتجاوز السنتيميتر الواحد، وربّما أقل، فيما حجم الأكبر ثلاثين سنتيميتراً كحدٍّ أقصى. من هذه الأشياء الصغيرة، وعلب أجهزة الراديو القديمة التي يفرغها من محتوياتها، يصنع وشريكته ندى عبدالله مجسّمات مصغّرة لمكتبات ومطابخ وحانات جاز وغرف جلوس ومتاجر أزهار وغيرها.

بعدما عمل في الهندسة لسنوات طويلة، اعتزل مهنته لأسباب كثيرة، منها أن "المهندسين خرّبوا المدينة والبلد بما فيه الكفاية". شريكته ندى كانت تعمل في مجال تصميم الأزياء. إلا أنها اعتزلت المهنة بدورها، والسبب الرئيسي هو تراجع القدرة الشرائية لدى الناس. قبل ثلاث سنوات، افتتحا مشغلهما، ليخلقا عوالم حقيقيّة إنّما صغيرة، لدرجة أنّهما ينقلانها بين ذراعيهما من الطاولة الخشبية إلى الواجهة المطلّة على الشارع. في البداية، صنعا مجسّمين وربما ثلاثة. لاحظا أنها لاقت رواجاً، فكان مشروعهما الذي خططا له في المقهى الواقع في الشارع المحاذي لمتجرهما.

استعمال جهاز الراديو لصنع المجسّمات كان الشرارة الأولى لفكرة غابي وندى بالغوص في عالم المجسّمات الصغيرة. في العادة، يلجأ صانعو المجسّمات إلى علب عادية من الكرتون الصلب أو مواد أخرى، لكن الراديو أمر مختلف تماماً، بحسب غابي، "كان الناس يتحلّقون حول جهاز الراديو القديم ليستمعوا إلى القصص. والمجسّمات التي نصنعها أيضاً تحكي قصصاً، وتتيح في الوقت نفسه للمتمعّن فيها نسج القصص التي يحبّ".




في الصيف الماضي، باع مجسّم مكتبة لامرأة أفصحت له لاحقاً أنّها اشترت قطعته الفنيّة هذه لأنها وجدت فيها أحد كتبها المفضّلة، وهو "الأب غوريو" لبالزاك. يتوقّف بعض المارّة أحياناً ليعربوا له عن إعجابهم بالمجسمات، حتى لو لم يكن في إمكانهم تحمّل كلفتها التي تبلغ أحياناً الستة آلاف دولار (للمجسّم الواحد). يقول إنّ ما يشعر به حين يعبّر أحدهم عن تقديره لفنّه يوازي عنده الدنيا كلّها.



قد يبدو الرقم، للوهلة الأولى، خياليّاً. لكنّ بعد الاطلاع على الدقة التي يعمل بها الفنّانان، والوقت الذي يمضيانه لإنجاز القطعة، ويصل إلى حدّ السبع ساعات يومياً لمدّة شهرين أو ثلاثة، وعلى جمال المجسّمات وتفاصيلها، يصير سعرها زهيداً جدّاً. يأخذ غابي المقاسات المحدّدة جداً لمجسّماته المتناسبة مع بعضها بعضاً، كما كان يمارس عمله كمهندس. الكتب التي يصنعها من أجل مجسّمات المكتبات مثلاً كلّها تحمل أغلفتها الحقيقية. يحمّلانها عن الإنترنت ويصغّرانها على "فوتوشوب" قبل أن يطبعاها. بعض الأشياء في محترفهما، لشدّة ما هي صغيرة الحجم، لا يمكنهما حملها بين أصابعهما، فيلجآن إلى ملقط صغير ورفيع.

يقول غابي إنّه وشريكته قلّما يقبلان صنع مجسّمات بحسب طلبات الزبائن. فالتنفيذ "يقتصر على التقليد وإعادة الصنع، ويفتقد للإبداع الذي يدفعهما للاستمرار في صنع المجسّمات". غالباً ما يمضي الفنّانان وقتاً لا بأس به في التفكير في المجسّم والتخطيط له، والقصّة التي سوف يحكيها، وعناوين الكتب التي سيختارانها للمكتبة، كون مجسّمات المكتبات هي أكثر ما يصنعانه.

وجد غابي نفسه أخيراً في هذا الفنّ، بعدما عمل مهندساً، ومارس بعض الأعمال اليدويّة، كصنع الفخّار والسجاد وغيرها. يتحدّث عن محترفه وطاولته ومجسّماته بشغف وحماسة بالغة. يقول إنّ جلوسه على هذه الطاولة لساعات هو علاج نفسيّ. "الانفصال عن الواقع لساعات وعن العالم الخارجي والضجيج يساعدنا على الاسترخاء والتركيز". شريكته ندى، التي غالباً ما يصيبها العالم الخارجي بالكآبة، تجد نفسها في سلام ما إن تطأ عتبة المحترف، وتبقى تعمل نحو أربع ساعات متواصلة.

ملاذهما هذا، أطلق غابي وندى عليه اسم "أركان" بالفرنسيّة، ويعني الغموض والأسرار والأشياء غير المفهومة. ففي محترفهما، كلّ تفصيل صغير يوحي بسرّ أصغر إلى أن تجتمع التفاصيل هذه كلّها في مجسّم واحد لا يظهر للعلن ولا يفهم له مقصد قبل أن يقرّر غابي وندى أن ينقلاه من الطاولة إلى الواجهة.

دلالات