يكتب عُمر صَقر قصيدته منضوياً تحت لواء الهُويّة، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى. والحقيقة أن أداءه الأدبي ووعيه السياسي يتجاوزان ما بات يقترن بهذا الضّرب من الكتابة في الإنكليزية رغم خروجهما من قلبه.
فالشاب الأسترالي الذي صدرت مجموعته الثانية "العرب الضائعون" عن جامعة كوينزلاند قبل أسابيع، أبواه من لبنان وتركيا، وقد نشأ في سيدني وسْط عائلة تتحدّث العربية التي لا يُتقنها شفاهةً أو كتابةً، وإن كان يألَفها بعمق، ويسعى إلى تَعَلُّمِها راشِداً.
لقد أراد أن يكتب دائماً، لكنه بدأ حياته الأدبية نافراً من الشعر، لاعتقاده أنه لا يفهمه. غير أنه اكتشف عبر برنامج ماجستير الكتابة الإبداعية في جامعة سيدني، مع جوديث بيفيردج وآخرين، أن شكل القصيدة هو أفضل طريقة يعبّر عن نفسه من خلالها، أو كما يقول هو في إحدى المقابلات "يعرف نفسه والعالم".
هكذا صدرت مجموعته الأولى "هذه البيوت الهائجة" عن "دار كوردايت" سنة 2017، تعالج ما تعرّض له من عنصرية وارتباك منزلي واقتصادي جرّاء كونه "ابن مهاجرَيْن مسلمَين".
إلا أنّ سؤال الهُويّة في شعر صقر، وعلى عكس الحاصل في الغالبية العُظمى من "الشعر الهُويّاتي" المعاصر - حتى الجيّد منه - كثيراً ما يُضمِر أواصر دفينة مع مدارس شعرية بعيدة عن ما يُكتب بالإنكليزية اليوم في هذا السياق.
"أنت لستَ متعباً من شِعر الشَتات
بقدر ما أنا متعبٌ من الشتات نفسه".
هكذا يكتب في مفتتح إحدى قصائد المجموعة على سبيل المثال:
"أحياناً أشكر الله
على أنني وُلدتُ داخل دبابة
من صُنع أمريكا
وأحياناً أبكي
في جوف الوحش".
ولا يعني ذلك أنه لا يُقدّم نفسه ونَصَّه، بل وعَبْرَ النصّ ذاته، من تلك الوجهة. فكونه من مواليد عام 1989، ينتمي صقر إلى جيل ومناخ أدبي مَعنيّ بالمُسَمّيات المسيّسة؛ فكأنّ القصيدة، فضلاً عن كونها عملاً فنياً أو رغماً عن ذلك، هي أيضاً وثيقة ردّ اعتبار لمواطن/ مهاجر مهمّش أو ممثّل أقلية (عرقية، دينية، ثقافية، جنسية) قادر على كتابتها.
لهذا يُعَنوِن قصائده "آمين" و"عرب في الفضاء"، مستدعياً علاقته بالعقيدة الإسلامية وأفكاره عن الله، فضلاً عن التزامه بالقضية الفلسطينية أو العروبة التي يبشّره بوجودها في دمه شاعرٌ فلسطيني يلتقيه بلا ترتيب في مهرجان دولي. يكتب:
"عربيٌّ من بلده وفي بلده ذات مرة
قال لصبي وُلد في المستعمرة: أنت أيضاً عربي
أسمع ذلك في صوتك...
قال: عندك خارطة نفسانية،
خطٌ زمنيّ طوله 400 سنة
لعلك ممتنٌّ لعائلة أتاحتْ لك استنباطَه.
دائماً ما كنتُ أعرف أنني قديم..."
ولهذا أيضاً تتداخل الانهيارات المنزلية التي أضْنتْ طفولته - الأم المدمنة القاسية، والأب الغائب المنتمي إلى لغة وثقافة غير الأم - مع المآسي التاريخية التي أتت بهما إلى أستراليا في المقام الأول، وخرج هذا الوعي المعذّب من رحمها:
"أضع التاريخ في خزانتي
حيث يؤدّي إلى أقل قدر ممكن من الأذى.
وأحرِص على تلميعه من حين إلى آخر...
يستحوذ الماضي عليّ
كما يَستحوذ قاتل على ضحيته،
ليس الجثة
ولكنْ القصّةَ الخلفيّة،
الدافعَ حيث بدأتِ النهاية.
في حُلمٍ
شرحتُ ذلك لأمّي بينما أَخنُق رقبتَها.
وتبتسم...".
ولعلّ أقرب ما تُذكّر به كتابة صقر على مستوى الشكل والنبرة هي أعمال مَن يُمكن أن يُسمّوا "شعراء الهجرة الجدد" في أميركا، أمثال إيليا كامينسكي الأوكراني، وأوشان فوونغ الفيتنامي وغيرهما ممن حوّلوا الهجرة وما يقترن بها من معاناة إلى عدسة جمالية يتطلّعون من خلالها إلى المكان الأول واللغة الأولى، أو الرحلة منهما وإلى واقع ينطلق منه وإليه خطابهم الشعري، بينما هم واقفون بأقدام ثابتة على أرضية هذا الواقع الإنكليزية.
لكنْ ثمّة أيضاً مجموعة أخرى من شُعراء الإنكليزية ذوي الأُصول العربية الأكبر جيلاً - الليبي خالد مطاوع مثلاً - قد يستدعيهم مثل هذا الأدب الهجين. فلدى عمر صقر وعي سياسيّ أبعدُ من شعراء الهجرة، وهو لا يُضَفِّر الشخصيّ بالتاريخي بدافعٍ بلاغي بل يَفعل - مثله في ذلك مثل مطاوع - في سياق رؤية أوسع لأحوال العالم، بما فيه من مظالم تاريخية وجرائم على الحدود.
يتحدّث، ليس فقط عن التعذيب في معرِض ضرب الأطفال، ولكن أيضاً عن فيديوهات الحروب في انتشارها "الفايرال" على الإنترنت. يتحدث عن أكثرَ من نُصُب تذكاريّ في المستقبل. ويتحدث عن تطبيق التعارف "تيندر"، محوّلاً الميول الجنسية للباحثين عن الغرام إلى مجازات عميقة لما يحدث في العالم.
غير أن صقر يختلف عن هؤلاء وأولئك على حدٍ سواء. فهو إنْ كان يؤكّد هُويّته إنما يفعل من خلال الإشارة إلى فراغ من شأن تلك الهوية الغائبة أن تشغله:
"أنا، العربي، لا يحِقّ لي أن ألِجُ هذا الفضاء.
أنا، العربي، لستُ عربياً فحسب.
فيّ دمٌ آخرَ مجنون".
وإن كان يَطرح رؤية سياسية للعالم فإنما يدعها تنبثق من خبرته الشخصية مباشرة كمواطن حيّ:
"أعرف أن الزهرة ليست سلاحاً
لكنّ احتمال الأذى يظلّ.
لقد أصبتُ نفسي بجراحٍ في الحقول
وأنا أبحث عن الحدود التي سمعتُ أنها هناك تنتظر".
والنتيجة أنه، سواءً كان الشاعر واعياً بذلك أو لا، ثمّة ما يذكّر بفلاديمير ماياكوفسكي وبعض فيسوافا شيمبوريسكا في تناغم "الالتزام" مع المعطيات الجمالية للقصيدة، وثمّة ما يمنح وعي "المهاجر المقموع" سياقاً يتضمّن الهم الروحاني ذاته الذي يحرّك أعمال ريلكه أو طاغور، ونظرية التحليل النفسي كما تَعكِسها أعمال هيلدا دوليتل أو سيلفيا بلاث. فحتى إن كان يصلنا عبر قنوات الهوية، هنا شعر عالمي وإنساني حقاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهُوية وعياً وخياراً
خلال سنوات قليلة، لفتت تجربة عمر صقر الانتباه في بلده أستراليا، حيث قوبلت بترحاب وفاز صاحبها بعدة جوائز، وتجاوزته إلى مناطق أخرى في العالم. لكن ما هو سرّ الشاعر؟ ما الذي يجعل من شاعرٍ صوتاً جماعياً وهو يقول عالمه الحميم؟ هذا بعض ما تقوله لنا تجربة عمر صقر، الذي ولد لأسرة مهاجرة إلى أستراليا، ثم اختار أن ينتمي عن وعي للهُوية العربية، وأن يجعل من القضية الفلسطينية معادلاً لإنسانيته.