عُمرٌ يُستنزَف للاستمرار

07 مارس 2017
+ الخط -
تصحو من نومك والجسدُ ناحل وأوجاعه متعددة، على أزعجِ صوتٍ اخترته للمنبه الصباحي، فما من صوت آخر يناسب أن تبدأ به، قصّ مزيد من الوقت الممنوح لك في الحياة، لتبدأ على عجالة تجهيز نفسك من أجل الوصول في الوقت المحدد، فالتأخر ولو لدقائق يضعك تحت مطرقةِ منْ لا عملَ له سوى عدِّ دقائقِ وجودك في المكان الذي تستنزف فيه حياتك، كلّ ذلك أنت مضطرٌّ عليه من أجل أن تأكل وتنام باحترام إلى أن تموت بكرامة.

في العمل أنا مطالبٌ بالانتظام بكل شيء، يجب أن لا أضيع الوقت، وأن أحرص على أن تعمل كلُّ الحواسّ والجوارح مع الأصابع، ليكونوا خليةَ نحل تنتج شهداً يشفي غليل من يعطيني أجراً على ذلك، الساعات التي أهدرها من عمري، مقابل ثمن زهيد لسداد فواتير الحياة البسيطة، تدعى وظيفة، هذا الشيء يمارس من خلاله البعض كلَّ طقوس البيروقراطية المفضلة لديهم، وهي درجة متقدمة من العبودية (عبودية باحترام)، فيها تسلط وغبن وعدم مساواة ومحسوبية ليس لها حدود، وفي الوقت ذاته تنقذك من حاجتك للآخرين مادياً، وتتخلص من هاجس البطالة والخوف من تراجع المستوى الفني نتيجة البعد عن العمل، وهذه الأسباب يدركها المسؤول في العمل، لذلك هو يسعى جاهداً لاستغلال نقاط الضعف تلك، ولا سيما أنه يدرك جيداً ظروف كل موظف لديه.

كل هذه الحسابات تدفع بالمسؤول إلى التمادي بصلاحياته، وخصوصاً إذا كان غيرَ ملزم بعقدٍ مع الموظف، مثلما يحصل في معظم شركات القطاع الخاص، فتكون التشريعاتُ بحسب المزاجيات اليومية والقرارات وفقَ الأهواء الشخصية، عندها يتجرأ الإداري على أن يقطع الراتب ويفصل الموظف ويقلص مرتبه، معتقداً أن هذه هي الإدارة! من الأمور التي يصعب على الإدارة فعلها، مفاجأة موظفيها بمكافآت مادية أو كتب شكر معنوية، شكراً وعرفاناً لما يقدمه الموظف من مجهود يرتقي بالعمل عامة نحو الأفضل، وتذهب عنه التفكير بالاستغلال، متناسين أساليبَ مهمة لنجاح العمل كإيجاد أجواء منافسة شريفة بين الكادر، بغية عدم تقديم حوافز بسيطة تفرح الموظف وتشعره بالاهتمام، وتميزه عن زملائه الذين يقدمون مجهوداً أقل وتدفعهم نحو تقديم الأفضل.

أما أسوأ عبارة يسمعها الموظف في ظل الأجواء التي ذكرتها فهي: "إذا لم يعجبك العمل معنا فاذهب وجد عملا أفضل، وسنتمنى لك التوفيق"، هذه العبارة التافهة إن صح الوصف، تضع الموظف في دوامة أخرى، والتخوف من أن لايجد توافقاً مع كادر المؤسسة الجديدة التي يتقدم للعمل بها، لاسيما أن الاستقرار هو طموح لكل إنسان في شتى مجالات الحياة وإحداها والوظيفة أو العمل، من وجهة نظري لايصلح لتولي أي منصب إداري من يملك هذا النوع من التفكير، إذ لا أستوعب كيف تفرط إدارة عمل ما بموظف أو عامل، يعرف كيفية تسيير العمل بانسيابية ويمثل وجوده استقراراً في عمل المؤسسة التي ستضطر إلى جلب موظف يحتاج لوقت حتى يفهم طريقة وهيكلية العمل، فالمؤسسة التي لاتملك خطة عمل واضحة ولاتعمل على إيجاد أجواء مثالية للعاملين لديها لايمكنها المضيّ بخطة عمل مرسومة.

تأمل أنك تقدم ما هو مطلوب منك، وتقضي أفضل ساعات يومك في مكان العمل، وتعيش في ذلك المكان مع أناس لا يتعاملون معك معاملة حسنة، ويتوقعون أنهم في مؤسسة من مؤسسات الأمن الوطني أو في ثكنة عسكرية، حيث الجميع متشنجون وشعارهم "نفّذ ثم ناقش"، ولا يحق لك المطالبة حتى في حاجيات ومتطلبات العمل، وحتى إن طلبت وأرسلت بريداً ألكترونياً فلن يرد عليك أحد! ثم يتحدث أحدهم لماذا لا يبدع الموظفون، لماذا الكوادر لا تتقدم في العمل، لماذا بعض المستويات تتدنى؟!

كل ذلك ولا توجد معالجة حقيقية للأسباب، فالمديرون يجلسون مع المديرين، والموظفون مع الموظفين، إذ لا المدير يعرف بما يفكر به الموظف ولا الموظف يعلم ما هي فكرة المدير، كل يمارس دوره حتى آخر الشهر إذ أضحى موعد الراتب هو أهم ما في دورة الحياة الشهرية للمؤسسات، لا أهداف ولا طموحات ولا تنازلات ولا إنصاف ولا عدل ولا منهجية ولا تفاهم ولا إبداع ولا وضوح، الكل يتعب ويبذل الجهود لأجل حفنة نقود تحافظ على احترام ديمومته في الحياة إلى حين انقضاء الأجل، ما هذا البؤس؟

إلى أين تريد أن تصل تلك الإدارات ببذخها، من دون نجاح واستثمار لوقت وطاقات وجهود العاملين لديها؟ لماذا تكون النرجسية واللامبالاة صفات دائمة العضوية في عقل الإداري؟

وينتهي نهارك وأنت منهك بواجبات مكررة، تقوم بها كل يوم بقالب واحد وفكرة واحدة، تغادر مكان العمل وأنت غير راض عما تقدمه، بكل بساطة أنت لم تحقق شيئاً على الصعيد الشخصي، هدرت ساعات من عمرك الثمين بأمر غير نافع وبعمل غير منظم وبأجر زهيد لا تستحقه، ثم تتساءل في نفسك متى يفقهون؟

وبهذه الطريقة ينتهي عمرك الذي قضيته تحت رحمة عمل ضائع، من أجل قليل من الطعام وسقف مؤقت يؤويك، أي ما يتوافر لأي قط أو عصفور دفع ثمن حريته حبيساً ليتسلى أحدهم.

 

A7642D5D-BF4D-4BB6-9A48-C1BCC433C194
A7642D5D-BF4D-4BB6-9A48-C1BCC433C194
عمر الجنابي

إعلامي عراقي مستقل يقول: قلمي سلاحي الوحيد... ولا أفكر بالتخلي عنه"

عمر الجنابي

مدونات أخرى