مسقط المنطوية على عزلتها، تنفتح على آفاق التجديد في سبعينيات القرن العشرين، لتعرف لاحقاً، تحولات جذرية. تشهد المدينة بداية تحولاتها الثقافية بتدشين دور العرض السينمائية "المتخصّصة"، والتي جرى افتتاحها في بداية السبعينيات، كسينما "روي" و"النجوم" و"النصر"، ما مثّل في ذلك الوقت "الوجه الجديد" للعاصمة بعد مطرح ومسقط القديمة.
ثلاث قاعات سينما، كانت المؤسِّسة للمشهد السينمائي الفرجوي في عُمان، حيث كانت تقدّم لروادها من الوافدين، الأفلام الهندية، وأفلام "الكابوي" الأميركية، خاصة للعاملين في شركة "شل" الهولندية للتنقيب عن النفط.
تلا ذلك، تقديم الأفلام العربية للعمانيين والعرب، حيث لا تزال ذاكرة ذلك الجيل تحتفظ بتألق نجوم ذلك الزمن، وبأسماء أفلامهم، كـ"أميرة حبي أنا"، وفيلم "الرصاصة لا زالت في جيبي"، و"عودة الابن الضّال"، و"طائر الليل الحزين".
في استرجاع لذاكرة مسقط السبعينيات، وكمحاولة لرصد الدهشة الأولى والفرجة الأولى، يحكي الكاتب العُماني يعقوب الخنبشي، بالكثير من تدفق الذاكرة، عن استرجاع تلك اللحظة التي حضر فيها إلى مسقط، وهو القادم من الرّيف العُماني، الذي كانت الحقول والمزارع والطبيعة هي "سينماه الحيّة والمبدعة" لخيال ذلك الفتى الذي كانه.
عن ذاكرته الأولى، والتي يمكن اعتبارها شهادةً حيّةً لتحوّلات مدينة تغادر عزلتها بهدوء، يسرد الخنبشي ذلك اليوم المسقطي الجميل الذي ظل يلازمه بأدق تفاصيله. يقول "علاقتي بالسينما كانت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وبالتحديد في سينما "بلازا"، في روي، وكان أول فيلم سينمائي شاهدته في حياتي فيلماً هندياً لم أعد أتذكر اسمه، وكان أحد أفلام "الأكشن" الرائجة في ذلك الوقت".
يضيف الخنبشي: "حين قطعت في الفترة المسائية حوالي ثلاثة كيلومترات سيراً على الأقدام، وسط الجبال، من منطقة سكن أخي وعائلته، وصولاً الى منطقة روي، أذكر أنني في ذلك اليوم المليء بالدهشة، وقفت مع جار أخي سالم بن خميس، والذي كان مغرماً بالسينما".
يتابع: "وقفنا وسط طابور طويل، وحشد كبير، بانتظار دورنا في الحصول على تذكرة، لنجلس ضمن صفوف الدرجة الأولى. خرجت يومها بإحساس مختلف وتجربة جديدة كنت فيها فارس الحكاية بعد عودتي الى مدرستي في "القرية" وأنا أقص لزملائي عن تلك التجربة الفريدة لتتلاحق بعدها الزيارات المحمومة إلى سينمات مسقط".
الكثير من عشاق السينما يعتبرونها "دهشة"، والدهشة دائماً ما تشكّل عالماً منفلتاً من عِقاله. وفي استرجاع آخر لذاكرة مسقط السينمائية، والتي لم تحظ بأرشيفٍ مدوّن يوثّقها، بحيث كان لا بد من الاتكاء على الذاكرة الشّفاهيّة لأُناسٍ عاصروا تلك الفترة، ومن بينهم مبارك السعدي الذي ظلَّ يحلم في سنوات يفاعته الأولى بالجلوس أمام تلك الشاشة العجيبة.
يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "سمعت عن السينما في طفولتي أكثر ممّا شاهدتها، في الولاية الساحلية التي عشت فيها، كان البحر هو وسيلة الترفيه الوحيدة التي تواسي مواجع الناس وهمومهم. لم نكن محظوظين كسكان مسقط، الذين عرفوا السينما في وقت مبكر".
يضيف: "أذكر أنني في بداية الستينيات، وفي كل صيف، كنت أنتظر قدوم أقاربنا العاملين في الكويت ليروي لي أبناءهم قصص الأفلام التي شاهدوها في سينمات مثل "الفردوس" وحولي" و"الأحمدي"".
يأخذنا مبارك إلى اللحظة التي تقابل فيها وجهاً لوجه مع شاشة العرض، لأول مرة في حياته. يقول "ذات يوم شاع الخبر في قريتنا عن نية أحد التجار افتتاح سينما في الولاية. كان ذلك الخبر وكأنه يوم عيد. كنت ورفاقي ندّخر من مصروفنا اليومي لنذهب إلى السينما مرات عدة في الأسبوع، ودون علم أهلنا".
يتابع: "كنا نقطع المسافة وسط المزارع بدرّاجاتنا الهوائية لنقطع سعر تذكرة الدخول التي كانت بثلاثمائة بيسة فقط. وكانت السينما عبارة عن مساحة مربعة، ومسوّرة بالإسمنت وبلا سقف، والمقاعد خشبية ومصنوعة من سعف النخيل، وكم من المرات حُرمنا من المشاهدة، بسبب عطل في باكورة العرض أو سقوط الأمطار".
ما بين جيلين وذاكرتين، تظل متعة المشاهدة هي الجامعة، حيث السينما بجمالياتها البصرية تستهوي الجيل الجديد من الشباب العُماني. وهو جيل انفتحت أمامه الكثير من الخيارات الترفيهية، إلا أنّه انحاز إلى متعة الفرجة السينمائية، حيث تشهد القاعات إقبالاً كبيراً من العائلات العمانية، ويلي العمانيين في حجم الإقبال، الأوروبيون ثم الآسيويون ثم العرب.
يلفت الشاب العُماني فهد البلوشي، النظر إلى ضرورة زيادة دور العرض. يعتبر البلوشي أن القاعات باتت تعد بالعشرات، ولم تعد مقتصرة على العاصمة مسقط، لكن القاعات الموجودة لم تعد كافية.
يقول "إذا أخذنا بعين الاعتبار آخر الاستطلاعات، فإنها تؤكد على ارتفاع نسبة مرتادي دور العرض السينمائي في الخليج إلى نسبٍ فاقت 10% سنوياً. وهذا الرقم مؤشر يدعو إلى زيادة في افتتاح دور عرض جديدة مع الاعتماد على التقنيات الحديثة في الفرجة السينمائية".
من جهتها، تؤكد أحلام الريامي على حبها للسينما، حيث تحرص على مشاهدة الأفلام التي يتم الإعلان عنها: "أنا سعيدة بوجود دور سينما متنوعة في مسقط، تقدم لنا قائمة من أهم الأفلام العالمية بتقنيات حديثة، توفر متعة المشاهدة وتراعي الخصوصية. لكني أعتقد أنه من الضروري توفير مجمّع سينمائي متكامل يحتوي على عشرات الصالات، لاستيعاب الإقبال المتزايد من المشاهدين سواء العمانيين أو المقيمين".
تضيف الريامي "نحتاج إلى قاعات تقدّم مزايا مختلفة، وخدمات إضافية بأسعار تتناسب مع مستويات الرفاهية التي تضاهي ما يقدم في أعرق دور السينما العالمية. ابتداءً من إمكانية الحجز في الصالات الخاصة، وصولاً إلى مشاهدة الأفلام ثلاثية الأبعاد، التي تتبع آخر صيحات التطور التقني".
هكذا تشهد عُمان تحوّلات في ميولات أبنائها، وبالتالي فإن التحوّلات في فضاءات تقديم العروض السينمائية ستكون استجابة لهذا الوضع الجديد بحيث يتماشى مع تطوّرات السينما والنمو السكاني والانفتاح الذي يشهده البلد في السنوات الأخيرة.
من ثلاث دور سينمائية إلى عشرات دور العرض، ومن عدد محدود للمقاعد إلى 6450 مقعداً اليوم، تبدو المسافة التي قُطعت كبيرة، إلا أن الطريق يفتح على أفق لا يزال بعيداً، ويبدو أن محبّي السينما في عُمان مصمّمون على بلوغه.
اقرأ أيضاً: البحر والصحراء والجبل: ثلاثة أوتار عُمانية