عيد استقلال كئيب بأميركا وسط صراع حول الهوية

05 يوليو 2020
مواقف ترامب تغدي الانقسام (Getty)
+ الخط -

تحتفل أميركا اليوم بعيدها الوطني الـ 244، لكن هذه المرة تختلف ذكرى الاستقلال عن كل سابقاتها ما عدا تلك التي مرت في سنوات الحرب الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر. وإذا كان الاحتفال في الشكل باق على حاله في واشنطن، من ألعاب نارية باهرة على مقربة من البيت الأبيض واستعراض جوي رمزي بناء على طلب الرئيس دونالد ترامب؛ إلا أن أجواء العيد كئيبة إجمالاً وأبعد ما تكون عن الاعتيادي والمعهود. ليس فقط لأن أميركا في ضيق حال وشبه حظر اضطراري بحكم فيروس كورونا، بل أيضاً وأساساً لأنها غارقة في جدل وصراع ساخنين حول هويتها وفوارقها العرقية والاجتماعية التي استفحلت. واستدعت تلك الفوارق النزول إلى الشارع مؤخرا وبما فتح النقاش حول كيفية وضرورات التصحيح المطلوب، بين القوى المطالبة به وتلك المتشبثة بالمعادلات القائمة المتوارثة. وبهذا المعنى تبدو الولايات المتحدة وكأنها تقترب من محطة تاريخية فاصلة بين خيارين: تطوير الصيغة أو استمرارها مع ما يترتب على ذلك من نتائج وتحولات.

ترامب صاحب الحل والعقد يصر على استمرار الوضع مع شيء من التجميل لعيوبه.

 

لم يسبق أن حلّ عيد الاستقلال وأميركا تواجه أزمات متزامنة ومن الصنف الكاسر. واحدة صحية ما زالت مشرّعة على الأخطر بعدما اقتربت حصيلة الوفيات جرّاء الفيروس في الولايات المتحدة بشكل متسارع من 130 ألفاً. نسبة الإصابات عادت إلى الارتفاع أكثر من ذي قبل، وتجاوزت مؤخراً الخمسين ألفاً يومياً، وتهدد بمضاعفة هذا العدد. أرقام فاضحة تمثل ربع وفيات العالم وحوالي خمس الإصابات المسجلة به، رغم كل الإمكانيات الطبية المتفوقة المتوفرة. حالة تكفل الاستمرار في شل الحركة وإلى حين، تقول المرجعيات الصحية إنه قد يمتد إلى السنة القادمة مع ما يتسبب به من ركود اقتصادي يشكل الهمّ الرئيسي والعائق الأكبر لحملة الرئيس ترامب الانتخابية، خاصة في ظل فشل الإدارة وفق التقويمات الطبية في التعامل مع الفيروس.

وواكب ذلك فشل أكبر، تمثل في التعامل الخاطئ وباعتراف واسع شمل فريق من الجمهوريين، مع تداعيات مقتل الأميركي من أصول أفريقية، جورج فلويد، الذي قد ينزل اسمه في التاريخ كشرارة دفعت إلى محطة متقدمة في مسيرة التصحيح العنصري ولو البطيء. ورغم التحذيرات والانتقادات والاعتراضات ومنها ما صدر عن جمهوريين، إلا أن الرئيس ما زال على الخطاب والخط نفسه. مساء أمس الجمعة أقام احتفالا بمناسبة العيد الوطني في مكان له رمزية رئاسية تاريخية في ولاية ساوث داكوتا، بعدما ألقى أمام تماثيل حفرت في الصخر لأربعة من الرؤساء السابقين في جبل راشمور، خطاباً نارياً حول الأحداث الأخيرة التي شهدتها المدن الأميركية ردا على مقتل فلويد. وصف التظاهرات بأنها "عمل شرير" وأنها تمثل حالة "فاشية يسارية تهدف إلى إنهاء التجربة الأميركية وشطب تاريخها وقيمها وتشوية سمعة مؤسسيها"، واصفاً شعار "حياة السود مهمة" بأنه "رمز للكراهية".

في المقابل تتواصل عمليات اقتلاع تماثيل ونصُب في مدن وأماكن جنوبية لضباط الانفصال أثناء الحرب الأهلية ومن رموز الكونفدرالية التي كانت مناوئة لإنهاء العبودية أو التي روّجت للتمييز العنصري وعملت على ترسيخه. ومنها أسماء رؤساء، مثل الديمقراطي، وودرو ولسون. طفرة أثارت الاعتراض القوي من البيت الأبيض ورموز محسوبة على يمين المحافظين من باب أنها تشكل اعتداء على التراث والتاريخ. وكان ثمة تخوف من أن تتفاعل وتؤدي إلى احتكاكات في الشارع. لكن ذلك لم يحصل حتى الآن، ربما لأن حركة "التغيير" اكتسبت زخماً غير اعتيادي بعد حادثة فلويد، وبالذات لدى قطاعات وازنة في صفوف الأميركيين البيض الذين يتنامى حضورهم وحجمهم كقوى "تقدمية" في الحزب الديمقراطي. وهي تسمية جديدة تدخل الساحة الأميركية والتي يصنّفها بعض اليمين في خانة "الماركسية". مع ذلك وبالرغم من هذه الألقاب التي كانت تثير النفور لدى الرأي العام الأميركي، بقي التحرك "التقدمي" محتفظاً بزخمه على قاعدة أن الوقت قد حان لمعالجة المشكلة العرقية ولو بالحد الأدنى، من خلال بعض الإصلاحات والتغييرات وإن الشكلية. تجلّى ذلك فيما أقدمت عليه الأسبوع الماضي ولاية ميسيسيبي الجنوبية التي كانت أحد معاقل العبودية والتمييز العنصري حين أزالت شعار الكونفدرالية العنصري عن علمها بعد أن بقيت لوحدها تحتفظ به حتى الآن.

مثل هذه الخطوات ومحاولات كبح ممارسات الشرطة، فضلاً عن تزايد عدم الرضى عن "الحالة في البلاد" بنسبة 73% والشعور بالخوف 63% والعجز، كله أعطى شحنة قوية للجدل الدائر حول كيفية تلطيف آثار اللطخة العرقية إن لم يكن بالمقدور محوها. الطرف الضحية يستقوي بالدعم الداخلي المتزايد وبالتوازن الديمغرافي المحكوم بالتبدل لصالحه مع منتصف هذا القرن. وترامب صاحب الحل والعقد يصر على استمرار الوضع مع شيء من التجميل لعيوبه. ومن هنا أهمية انتخابات الرئاسة القادمة وأثرها على الصراع الجاري.

المساهمون