27 مارس 2019
عودة مسيلمة وغوبلز
يحيى العريضي
كاتب وإعلامي سوري، مستشار الهيئة العليا للمفاوضات، دكتوراة في الإعلام من جامعة جورج تاون
قد يُعطي ذكْرُ الهذر والكذب وتحليلهما قيمةً لمَن يهذرون أو ما يتفوهون به، لذا يُنْصَح بالابتعاد عنه، ولكن ثمنَ تخرصات ممثلّي نظامي الأسد وبوتين في مجلس الأمن دمٌ وخرابٌ ومأساةٌ سوريةُ لا تنتهي؛ فلا تجدنّ أمهر منهما في المرافعة عن الباطل، وتتمنى توظيف تلك القدرات النادرة في الخير والبناء واحترام العقل البشري. ترى بما يقولانه حكمةً وقانونيةً واقتباسات موائمة مثقفة من أهم الكتّاب والأدباء والفلاسفة والتجارب؛ وتكاد تشعر أنك أمام باحث أو علامة راسخ في العلم والمعرفة، ومرجعية لا يسير العالم إلا بهديها.
لم يسمع السوريون والعالم تكرار كلمة "بلادي" أكثر مما سمعوها من ممثل نظام الأسد، بشار الجعفري، تُطلق بطريقة حميمية فيها تحدٍ وحب وعنفوان؛ ولكن أي إنسان عادي يعرف أن المرء لا يفعل ببلاده ما فعل النظام الذي يمثله الجعفري تشريداً وتقتيلاً وتدميرا. يقول إن "بلاده" ملتزمة بالشرعية الدولية وقراراتها؛ ويشهد العالم على رفضها وتمنعها، حتى عن مناقشة القرارات الدولية الخاصة بالقضية السورية، بل محاربتها، والسعي إلى إجهاضها برعاية الحامي الروسي. ويزيد البراعة بمخاطبة مَن اختارهم من أعضاء مجلس الأمن بالقول: "أيها الملتزمون بالشرعية الدولية..." ويصل به التمادي إلى توزيع نسخ من "ميثاق الأمم المتحدة" على الذين يراهم خوارج على الميثاق، فقط لأنهم يريدون عقاب نظامه على مخالفة "بلاده" الشرعية الدولية.
يُحاضر الجعفري بالكذب عائداً إلى مسلّمة أن "الكذب قد ينفع مرة واحدة"؛ ويستغرب المرء قدرته على الكذب المستمر، والأكثر استغراباً تصوره أن الكذب ينفعه في كل مرة. الجعفري على حق بذلك؛ فمَن منظومته الذهنية تستند، كما سيّده، على عالم منفصم ومنفصل عن الواقع يكوّنه كما تمليه عليه تلك المنظومة المريضة، من الطبيعي أن يرى ما يخالفها أو يناقضها كذباً وزيفا. فإذا كانت زميلته بثينة شعبان، المستشارة السياسية لسيّده، قد قالت إن الأطفال الذين قضوا بالكيميائي عام 2013 قد تم جلبهم من الساحل السوري، ليتحوّل ذلك القول بالنسبة له إلى مسَلّمةٍ، فالطبيعي أن يعتبر الجعفري أن مَن يقول غير ذلك كاذب.
تمنع "بلاده" لجنة تحقيق باستخدام السلاح الكيميائي، ويستخدم حاميه الروسي "الفيتو" مرات ليحول دون تشكيلها، ويقول الجعفري إن "بلاده" تنتظر لجنة التحقيق، والآخر (غير الملتزم) بالشرعية الدولية يعرقلها. وإن لم تشاطره الدول التي تمتلك معلومات وأدلة على استخدام "بلاده" السلاح الكيميائي، يكونوا كاذبين. ثم يتقدّم بالدليل الساحق الماحق، عندما يقول إن لديه تسجيلاً لاعترافات هؤلاء الذين فبركوا "مسرحية" الكيميائي في دوما. وهنا حقيقة لا بد من تصديقها؛ فـ"بلاده" صاحبة الخبرة الأرفع قد تتمكّن من جعل فنانة، مثل مي سكاف، تعترف بأنها قتلت غيفارا؛ وربما تمثّل الجريمة أيضاً. لقد جعلت "بلاده" وافد أبو ترابة يعترف بأنه فجّر موكب رجل الكرامة وحيد البلعوس. طبعاً لم يقل أحد للجعفري إن "بلاده" جلبت والدة رافد إلى المعتقل أمامه، وهدّدته؛ إن لم يعترف.
في ختام مرافعته أمام مجلس الأمن، يبدأ بتخيل مشهد اتخاذ قرار "العدوان الثلاثي" بشن هجوم على "بلاده"، والحديث الذي دار بين الثلاثي، وعدم توفر الأدلة بين أيديهم، وكيف يمكن أن يغطوا ذلك. حقيقة الأمر، العبارة الأهم في ختامه هذا هي "دعوني أتخيّل". والتخيّل فعلاً هو الناظم لكل مرافعات الجعفري.
مصيبة ممثل بوتين في مجلس الأمن، فازلي نيبانزيا، مختلفة قليلاً؛ فهو كسيّده أسير لعقدة "تسلّط الغرب على روسيا وتدميره للاتحاد السوفييتي، فازلي مسكون بالمثل: "ما هو أكل طيّب لروسي، سُمٌ زعاف لألماني". كرّر في مرافعاته أمام المجلس عبارة: "ترفضون الحقائق التي نقدمها"؛ وحقائقه، حقيقة الأمر، ليست إلا "الحقائق" التي يزوّده بها الجعفري و"بلاده". عقدة ترى في دبلوماسية الغرب خبثاً وتشويهاً للمبادئ، لكنه ربما يعتقد أن دبلوماسية "البلطجة" التي يتبعها، هي الرد على ذلك الخبث.
قد يكون السفير البوتيني محقاً في توصيفه الغرب بالقول إنه يستخدم "حقوق الإنسان "غطاء"؛ وندعوه أن يخالفهم؛ ويلتفت إلى حقوق الإنسان؛ فهل في استعراض مائتي صنف من السلاح استُخدمت على الأرض السورية، وقتل آلاف السوريين؛ احترامٌ لحقوق الإنسان؟ وهل القنابل الفوسفورية، وقصف الأسواق والمشافي التزامٌ بحقوق الإنسان؟ "حقوق الإنسان" بالنسبة للسيد السفير ربما "حقوق" الأسد وعصابته في البقاء على صدور السوريين.
يقول أيضاً "نصوّت ما يمليه علينا ضميرنا"؛ فإذا كانت حماية الإجرام ما يمليه عليه ضميره، فنعم ضمير كهذا. دعا سفير بوتين إلى عدم استخدام القوة؛ لكنه نسي وربما تناسى أن روسيا لم تستخدم في سورية إلا القوة لنصرة منظومة الاستبداد الأسدية.
فجأة أصبح السيد السفير مغرماً بـ "الحل السياسي وبالسلام" في سورية. قال إن "الضربة تعرقل العملية السياسية"، فهل تركت بلاده وسيلةً لإجهاض العملية السياسية إلا واستخدمتها؟ وكم من صوتٍ ناشد بلاده أن تضغط على نظام الأسد لكي يدخل في العملية السياسية؟ ألم تسعَ بلاده إلى إفراغ القرارات الدولية الخاصة بالقضية السورية من مضمونها؟ مَن حوّل مطالبة تلك القرارات بـ "وقف إطلاق النار" إلى "مناطق خفض تصعيد" تحولت إلى مناطق تصعيد وتشريد؟ ومَن حوّل ذكر لقاء لـ "المعارضة" تم في موسكو إلى منصة "معارضة" بغية ضرب مصداقية المعارضة السورية؟ وهل هذا حرص على العملية السياسية، أم سياسة بلطجية باستخدام الأدوات العسكرية لتفصيل "حل" يبقي منظومة الإجرام "الشرعية" بمفهوم موسكو؟
هناك ثغرات كبيرة في المنظمة الدولية ومعاناة عالمية بلا حدود؛ ولكن يبقى وجود مخاليق كالجعفري في تلك المحافل، وإعطاؤه مجالاً لنفث غثاءٍ كهذا، سقطة وثغرة يصعب على أي إنسان يحترم نفسه تحملها. الثنائي بشار الجعفري وفازلي نيبانزيا بعيدان عن شنٍّ وطبقة؛ لا شبيه لهما إلا مسيلمة وغوبلز.
لم يسمع السوريون والعالم تكرار كلمة "بلادي" أكثر مما سمعوها من ممثل نظام الأسد، بشار الجعفري، تُطلق بطريقة حميمية فيها تحدٍ وحب وعنفوان؛ ولكن أي إنسان عادي يعرف أن المرء لا يفعل ببلاده ما فعل النظام الذي يمثله الجعفري تشريداً وتقتيلاً وتدميرا. يقول إن "بلاده" ملتزمة بالشرعية الدولية وقراراتها؛ ويشهد العالم على رفضها وتمنعها، حتى عن مناقشة القرارات الدولية الخاصة بالقضية السورية، بل محاربتها، والسعي إلى إجهاضها برعاية الحامي الروسي. ويزيد البراعة بمخاطبة مَن اختارهم من أعضاء مجلس الأمن بالقول: "أيها الملتزمون بالشرعية الدولية..." ويصل به التمادي إلى توزيع نسخ من "ميثاق الأمم المتحدة" على الذين يراهم خوارج على الميثاق، فقط لأنهم يريدون عقاب نظامه على مخالفة "بلاده" الشرعية الدولية.
يُحاضر الجعفري بالكذب عائداً إلى مسلّمة أن "الكذب قد ينفع مرة واحدة"؛ ويستغرب المرء قدرته على الكذب المستمر، والأكثر استغراباً تصوره أن الكذب ينفعه في كل مرة. الجعفري على حق بذلك؛ فمَن منظومته الذهنية تستند، كما سيّده، على عالم منفصم ومنفصل عن الواقع يكوّنه كما تمليه عليه تلك المنظومة المريضة، من الطبيعي أن يرى ما يخالفها أو يناقضها كذباً وزيفا. فإذا كانت زميلته بثينة شعبان، المستشارة السياسية لسيّده، قد قالت إن الأطفال الذين قضوا بالكيميائي عام 2013 قد تم جلبهم من الساحل السوري، ليتحوّل ذلك القول بالنسبة له إلى مسَلّمةٍ، فالطبيعي أن يعتبر الجعفري أن مَن يقول غير ذلك كاذب.
تمنع "بلاده" لجنة تحقيق باستخدام السلاح الكيميائي، ويستخدم حاميه الروسي "الفيتو" مرات ليحول دون تشكيلها، ويقول الجعفري إن "بلاده" تنتظر لجنة التحقيق، والآخر (غير الملتزم) بالشرعية الدولية يعرقلها. وإن لم تشاطره الدول التي تمتلك معلومات وأدلة على استخدام "بلاده" السلاح الكيميائي، يكونوا كاذبين. ثم يتقدّم بالدليل الساحق الماحق، عندما يقول إن لديه تسجيلاً لاعترافات هؤلاء الذين فبركوا "مسرحية" الكيميائي في دوما. وهنا حقيقة لا بد من تصديقها؛ فـ"بلاده" صاحبة الخبرة الأرفع قد تتمكّن من جعل فنانة، مثل مي سكاف، تعترف بأنها قتلت غيفارا؛ وربما تمثّل الجريمة أيضاً. لقد جعلت "بلاده" وافد أبو ترابة يعترف بأنه فجّر موكب رجل الكرامة وحيد البلعوس. طبعاً لم يقل أحد للجعفري إن "بلاده" جلبت والدة رافد إلى المعتقل أمامه، وهدّدته؛ إن لم يعترف.
في ختام مرافعته أمام مجلس الأمن، يبدأ بتخيل مشهد اتخاذ قرار "العدوان الثلاثي" بشن هجوم على "بلاده"، والحديث الذي دار بين الثلاثي، وعدم توفر الأدلة بين أيديهم، وكيف يمكن أن يغطوا ذلك. حقيقة الأمر، العبارة الأهم في ختامه هذا هي "دعوني أتخيّل". والتخيّل فعلاً هو الناظم لكل مرافعات الجعفري.
مصيبة ممثل بوتين في مجلس الأمن، فازلي نيبانزيا، مختلفة قليلاً؛ فهو كسيّده أسير لعقدة "تسلّط الغرب على روسيا وتدميره للاتحاد السوفييتي، فازلي مسكون بالمثل: "ما هو أكل طيّب لروسي، سُمٌ زعاف لألماني". كرّر في مرافعاته أمام المجلس عبارة: "ترفضون الحقائق التي نقدمها"؛ وحقائقه، حقيقة الأمر، ليست إلا "الحقائق" التي يزوّده بها الجعفري و"بلاده". عقدة ترى في دبلوماسية الغرب خبثاً وتشويهاً للمبادئ، لكنه ربما يعتقد أن دبلوماسية "البلطجة" التي يتبعها، هي الرد على ذلك الخبث.
قد يكون السفير البوتيني محقاً في توصيفه الغرب بالقول إنه يستخدم "حقوق الإنسان "غطاء"؛ وندعوه أن يخالفهم؛ ويلتفت إلى حقوق الإنسان؛ فهل في استعراض مائتي صنف من السلاح استُخدمت على الأرض السورية، وقتل آلاف السوريين؛ احترامٌ لحقوق الإنسان؟ وهل القنابل الفوسفورية، وقصف الأسواق والمشافي التزامٌ بحقوق الإنسان؟ "حقوق الإنسان" بالنسبة للسيد السفير ربما "حقوق" الأسد وعصابته في البقاء على صدور السوريين.
يقول أيضاً "نصوّت ما يمليه علينا ضميرنا"؛ فإذا كانت حماية الإجرام ما يمليه عليه ضميره، فنعم ضمير كهذا. دعا سفير بوتين إلى عدم استخدام القوة؛ لكنه نسي وربما تناسى أن روسيا لم تستخدم في سورية إلا القوة لنصرة منظومة الاستبداد الأسدية.
فجأة أصبح السيد السفير مغرماً بـ "الحل السياسي وبالسلام" في سورية. قال إن "الضربة تعرقل العملية السياسية"، فهل تركت بلاده وسيلةً لإجهاض العملية السياسية إلا واستخدمتها؟ وكم من صوتٍ ناشد بلاده أن تضغط على نظام الأسد لكي يدخل في العملية السياسية؟ ألم تسعَ بلاده إلى إفراغ القرارات الدولية الخاصة بالقضية السورية من مضمونها؟ مَن حوّل مطالبة تلك القرارات بـ "وقف إطلاق النار" إلى "مناطق خفض تصعيد" تحولت إلى مناطق تصعيد وتشريد؟ ومَن حوّل ذكر لقاء لـ "المعارضة" تم في موسكو إلى منصة "معارضة" بغية ضرب مصداقية المعارضة السورية؟ وهل هذا حرص على العملية السياسية، أم سياسة بلطجية باستخدام الأدوات العسكرية لتفصيل "حل" يبقي منظومة الإجرام "الشرعية" بمفهوم موسكو؟
هناك ثغرات كبيرة في المنظمة الدولية ومعاناة عالمية بلا حدود؛ ولكن يبقى وجود مخاليق كالجعفري في تلك المحافل، وإعطاؤه مجالاً لنفث غثاءٍ كهذا، سقطة وثغرة يصعب على أي إنسان يحترم نفسه تحملها. الثنائي بشار الجعفري وفازلي نيبانزيا بعيدان عن شنٍّ وطبقة؛ لا شبيه لهما إلا مسيلمة وغوبلز.
يحيى العريضي
كاتب وإعلامي سوري، مستشار الهيئة العليا للمفاوضات، دكتوراة في الإعلام من جامعة جورج تاون
يحيى العريضي
مقالات أخرى
04 مارس 2019
12 فبراير 2019
29 يناير 2019