في هذا السياق، لم تكن الانتهاكات الحدودية بين البلدين اللذين تربطهما علاقات دينية واجتماعية وجغرافية واقتصادية، جديدة، بل هي "اعتيادية"، من وقتٍ لآخر. غير أن الجديد هذه المرة، هو تحريك القبائل لمواجهة بعضها البعض، بعد أن عاشت بدورها لعشرات السنين على طرفي خط ديورند (الخط الحدودي بين البلدين)، حتى إنها دعت إلى إلغائه، محتجة كذلك على بناء السياج ونصب الأسلاك الشائكة من قبل القوات الباكستانية. كما أن حمْل تلك القبائل السلاح بعضها ضد بعض أثار استغراب الكثيرين، كونه بمثابة إنذار بأن "القوى المحلية والدولية قد تطلق لعبة جديدة تستخدم فيها القبائل القاطنة على طرفي الحدود كوقود حرب لا أكثر".
وبدأت المعركة الأخيرة، وفقاً لسكان منطقة زازي منغل، بعد أن حاولت القوات الباكستانية نصب سياج في الأراضي الأفغانية، مما أدى إلى مقتل خمسة باكستانيين واثنين من قبائل الأفغان. وفي هذا الصدد، قال ولي خان، أحد سكان منطقة زازي منغل، وهو أول من فتح النار على القوات الباكستانية وقتل اثنين منها بعد أن قتلت أحد أصدقائه: "كنا نشتغل في حقولنا عندما رأينا جنودا باكستانيين يعملون على مرتفعات قريتنا". ثم بدأت القبائل بالتواصل، وفي فترة وجيزة تجمّع عشرات الشباب، فذهب خمسة منهم إلى المرتفعات للتحدث مع القوات الباكستانية، كان منهم ولي خان.
وقال خان "عندما اقتربنا من القوات الباكستانية أمرتنا بعدم التحرك صوبها، قلنا لها ونحن على بعد نحو 20 متراً منهم إن الأراضي لنا، فلماذا دخلوا هم إليها؟"، مشيراً إلى أن "البداية كانت بالمشادات الكلامية، وبعدها أطلقت القوات الباكستانية النار علينا، ما أدى إلى مقتل أحد القبليين، واشتبك آخرون مع القوات الباكستانية وقتلوا منها خمسة وجرحوا آخرين. ومن ثم تدخلت القبائل والقوات الأفغانية".
لكن الرواية الباكستانية بدت مختلفة، إذ إن "القوات الباكستانية كانت تقوم بنصب الأسلاك الشائكة وهي تفعل ذلك منذ فترة، عندما أطلقت قبائل الأفغان النار عليهم، ثم تدخلت القوات الحدودية الأفغانية، ومن ثم بدأت المواجهات التي استمرت ساعات عدة". وانتهت القصة بعد التفاوض مع المسؤولين الأمنيين، ثم أُعلن وقف إطلاق النار بين الطرفين، وتسليم الجانب الأفغاني جثامين القتلى الباكستانيين مع جندي معتقل.
في هذا الإطار، قال حاكم إقليم خوست الأفغاني، حكم خان حبيبي، في مؤتمر صحافي عقده يوم الإثنين الماضي، بالقرب من مكان المعركة، إن "الأمر انتهى وسلّمنا جثامين القتلى إلى الجانب الباكستاني، والمعركة كانت تحمل في طياتها رسالة قوية إلى جارتنا، مفادها أن الأفغان، القبائل والجيش، لن يساوموا على سيادة الدولة ولن يتركوا شبراً من أراضيها لآخرين".
غير أن اللافت كان تدخّل القبائل الباكستانية وطريقة تدخّلها واستدعائها من قبل الجيش الباكستاني. الأمر الذي أثار استغراب الكثيرين، فطرحوا أسئلة عدة حول هدف استدعاء القبائل وتأثيره على الوضع على الحدود. مع العلم أن الجيش الباكستاني ليس كالجيش الأفغاني، فهو ليس بحاجة إلى استدعاء القبائل في مناوشات حدودية دائمة. ثمة تفسيرات مختلفة لذلك، وقد برّر الجانب الباكستاني ذلك بوقوف القبائل الأفغانية مع الجيش الأفغاني، وبالتالي كان من المفترض وقوف القبائل الباكستانية بجانب قواتها. ولكن ثمة من رأى أن للأمر أبعاداً أخرى.
في هذا السياق، كتب الإعلامي الباكستاني افتخار أزاد، على صفحته في "فيسبوك"، أن "الهدف هو تقسيم القبائل إزاء حركة البشتون التي نظّمت احتجاجات ومسيرات في مدينة لاهور، أمس الأحد، على أن تنظم احتجاجات ومسيرات مماثلة في 29 إبريل/نيسان الحالي في مدينة سوات، قبل التقرير بشأن الاعتصام في إسلام آباد. وبالتالي كان الهدف هو تقسيم قبائل البشتون وجلبها للمعارك على الحدود، لا سيما أن الدعايات عبر مكبّرات الصوت كانت تقول إن الأفغان هاجموا باكستان، وإن وراء الهجوم الاستخبارات الهندية والأميركية".
بدورهم، اعتبر آخرون أن "الهدف هو إشعال فتيل حرب بين قبائل الطرفين، وبالتالي يمكن للقوى المحلية والدولية أن تنفّذ مخططاتها، إذ إن تماسك تلك القبائل ووحدتها أفشل الكثير من المخططات على مرّ التاريخ". وهو ما أشارت إليه صحيفة "سرخط" الأفغانية بالقول إن "تحريك القبائل الباكستانية وراءه أهداف كثيرة، منها تقسيم القبائل الباكستانية إزاء الحركة البشتونية من جهة، وخلق عداء بينها وبين القبائل الأفغانية من جهة ثانية، وبالتالي يكون خط ديورند المتنازع عليه بين الدولتين خطاً فاصلاً بين القبائل المتخاصمة، وكل منها ستكون محتاجة إلى الحكومات لأجل مواصلة العداء".
وبرز قياديون محليون في الأحزاب الدينية، ومنها الجماعة الإسلامية وجمعية علماء الإسلام، أثناء استدعاء القبائل والتحرك صوب الحدود الأفغانية الباكستانية حاملين معهم السلاح. مع العلم أن للحزبين نفوذا كبيرا في القبائل، ويحصلان في العادة على مقاعد البرلمان المخصصة بمنطقة القبائل. وقد نشر تسجيل مصور لقيادي في الجماعة الإسلامية، وهو حاجي محمد سليم، في مقاطعة كرم، ناشد فيه القبائل بـ"الخروج مع أي سلاح متاح لهم، والتحرك صوب الحدود، لأجل الوقوف بجانب القوات الباكستانية المرابطة". وقال سليم خان، في جزء من خطابه عبر مكبر الصوت: "في الحقيقة نحن نواجه معركة اليوم مع الهنود والأميركيين وليس الأفغان، لأنهم يحرّضون القبائل الأفغانية ضدنا، وبالتالي واجب علينا أن نخرج وأن نقف في وجه العدو".
وكان زعيم حركة البشتون، منظور بشتون، قد أكد، قبل أيام، في أحد تسجيلاته المصورة، أنه "يخشى الجيش الباكستاني، كما أن قياديين في الحركة بيد جماعات دينية، ومنها حركة طالبان وبعض المنشقين عنها، وأن تلك الأحزاب تهددها بالقتل والاغتيال".
أما الرئاسة الأفغانية، فاعتبرت، في بيان لها، أن "جميع الملفات العالقة مع باكستان لا بد أن يتم التباحث بشأنها، ومنها ما حدث أخيراً على الحدود". كما قال الرئيس التنفيذي عبد الله عبد الله إن "المباحثات مع باكستان بشأن التصعيد على الحدود متواصلة وسنصل إلى النتائج عبر حوار بناء".
وبعيداً عن المواقف الرسمية، بدا أن قبائل الطرفين أدركت خطورة الموقف، ما دفع إلى اجتماع قبائل كرم الباكستانية مع قبائل إقليم خوست الأفغانية، يوم الأربعاء الماضي، في منطقة لكي تيكه، للموافقة على مواصلة الحوار، وعدم اتخاذ الجهات الرسمية أي إجراء على الحدود من دون التشاور معها. كما وافقت القبائل على استمرار الحوار لأجل التنسيق، ولعدم حملها السلاح بعضها ضد بعض. وقد حضر الاجتماع مسؤولون أمنيون من الطرفين.