عودة إلى التنظيم

26 أكتوبر 2014
+ الخط -

حالة الحنق والرفض التي اتسعت قبل اندلاع الثورات العربية شملت، مما شملت، التنظيمات والأحزاب والجماعات، وكل الصيغ الصارمة لتنظيم الفعل السياسي. بل إنها اتسعت لتشمل كل مكونات الحالة السياسية. تحت ضغط اليأس من إمكانية الفعل، وإلى جوانب عوامل أخرى، قد يكون أهمها تغول النماذج الثقافية المرتكزة على الفرد، تكرست قناعات بازدراء الصيغ التنظيمية ورفضها، وأصبحت مفردات الحياة الحزبية والتنظيمية الصارمة تحمل إيحاءات سلبية، ثقيلة على سمع من يمنّون أنفسهم بالتغيير، أو يجهدون في سبيل إحداثه.

جاءت الثورات العربية، وظهر على الساحة فاعلون جدد، أفراد، أو تجمعات من أفراد تأخذ صيغاً هشة، حتى في مسمياتها، ائتلاف، جبهة، تيار، حملة. كلها توحي بذلك الرفض للشكل التنظيمي الصارم المعتمد على تراتبية واضحة واشتراطات صارمة للانتساب والتمثيل. وشهد الربيع العربي موجة قدح وهجاء، بالصيغ التنظيمية التقليدية كالأحزاب، ومع أنه بدأ بمهاجمة أحزاب وتنظيمات بعينها، إلا أنه اتسع ليشمل حتى صيغة التنظيم والحزب، كأداة للفعل والتمثيل السياسي.

لا شك أن الحالة الحزبية أشبعت نقداً وقدحاً، وتراكمت فوقها أكوام من المقولات المفندة، إلا أن ذلك، في أحيانٍ كثيرة، لم يزعزع قدرتها على الفعل، ولم يبطل حضورها في المجال السياسي. وهذا ما يستوجب الفصل الواعي بين رداءة التجربة الحزبية والتنظيمية في سياق ما، واتخاذ موقف من صيغة الحزب التنظيم، كآلية حشد وفعل سياسيين.

خصوصاً في بيئة تبدو بحاجة ماسة لأي صيغة صارمة من التنظيم والحشد، وهي تغرق في مواقف متعددة متنوعة، بعدد أصحابها الفرادى. ولا أدل على هذه الحالة من التشتت الذي أصاب شباب الثورات العربية، وتذررهم بين التيارات والدول، وتحولهم من فاعلين إلى معلّقين على فعل الأجسام المنظمة من أحزاب وتنظيمات.

حتى المقولة الإعلامية، بقصد وتدبير أو من دونهما، تنحاز للصيغة الواضحة الصارمة، وبدل الانشغال في البحث عن الفاعلين الأفراد المفتتين، يجري الالتفات إلى الصيغ التنظيمية الواضحة. قد يخرج آلاف المتظاهرين فرادى، ويشارك في المظاهرة نفسها حزب معروف، ما سيدفعه ليكون عنوان التظاهر والحراك، ويسمح له بادعاء ذلك، وستتساوق معه الرسائل الإعلامية المنحازة للأجسام الواضحة.

قد يقاتل يمنيون جماعةَ الحوثي، وستنساق الرسالة الإعلامية للقول إنها القاعدة، بعد ادعاء القاعدة بأنها عنوان المواجهة. سينخرط أبناء عشائر وبعثيون سابقون، وعراقيون لا يحملون تسميات ولا تحزبات جيشَ نوري المالكي، وسيغدو الأمر، بعد حين، مواجهة بين المالكي وتنظيم داعش. سيتظاهر مصريون كل يوم ضد الانقلاب العسكري وسيظلون في الرسالة الإعلامية ووعي متابعين ومراقبين كثيرين من "الإخوان".

لا إغفال، هنا، للقصدية في تهميش الفاعلين الحقيقيين، ولكن الاستسلام له غير مبرر، ولا بد من العمل على إبطاله.

إن إنكار الحاجة إلى الصيغة التنظيمية لممارسة الفعل السياسي، ومنح الأفراد معنى لنضالهم، يقود إلى عجز عن فهم هذا التوسع المفاجئ لأشكال تنظيمية، في غاية الصرامة، مثل داعش. وإن النزعة الفردية المتفشية لدى النخب الثقافية، أو المعلقين على الحالة السياسية والمحللين لها، تحدّ من قدرتهم على إدراك الحاجة الملحّة إلى صيغ فعالة، ينخرط بها الفاعلون، أو حتى عوام الناس، لتشعرهم بإمكانية الفعل، وتولّد لديهم شعوراً بمعنى الفعل وجدواه.

يستطيع المنشغلون نظرياً بالحالة السياسية في أي سياق أن يطرحوا خياراً، أو نموذجاً، ويقلّبوه ويفكّكوه، ثم يعودون إليه بعد حين، بكل سلاسة ومن دون أعباء ولا تبعات، إلا أن الفاعلين في الميدان، بكل ما يتكبدونه من جهد وأعباء وخسائر، لا يملكون ترف اللعب بالخيارات ورفضها مجاناً، بل يبدو اتجاههم إلى خيارات وأدوات برهنت عن كفاءة وفاعلية عالية خياراً سليماً ومطلوباً، خصوصاً ونحن في مرحلة لا يملك فيها أي فاعل سياسي ترف التجريب والاختبار.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين