عهد الأغنية ومنال الصفعة

13 فبراير 2018

عهد التميمي ومنال ابتسام

+ الخط -
لم يكد يخمد سعار الغزوة الإعلامية على رائعة الشعب الفلسطيني، عهد التميمي، حتى شبّ من جديد، بعد أن مدّه بالوقود، صعود فتاة أخرى من أصول عربية، جاءت لتغني على إحدى شاشات التلفزة الفرنسية، في برنامج مخصص للغناء اسمها منال ابتسام.
اختلاف بيّن يفرّق الفتاتين، في المكان والنشأة والمسلك، غير أن اشتراكهما في الانتماء إلى ديار العرب والمسلمين منح العنصريين فرصة جديدة لدق النفير، وسبباً كافياً لاستخراج رواسب الضغينة والكراهية، ليتم استخدامها مجدّداً في الحقن ورصّ الصفوف تحت راية الدفاع عن قيم يهددها سلوك أمثال هاتين الفتاتين. ويضعهما بالتساوي في دائرة الشبهة الأبدية، ورفع تهمة الإرهاب علماً عليهما.
هكذا شهدت ساحات الوغى في فضاء التواصل رماحاً تُرفع بأسنّة صدئة، باحثة عن مكامن الإرهاب وبذوره الشريرة في ورود تكاد بتلاتها تقبل على التفتّح.
أن تصفع عهد جندياً يحتلّ دنياها، مدججاً بالسلاح، هو عمل إرهابي. وأن تؤدي منال أغنية أمام الحشد عمل لا يقلّ إرهاباً.
وهكذا في عالم تختلّ فيه قيم العدل، ينهض منطق العنصرية المتحكم بقطعان الرعاع. وبما يشبه امتهاناً للعقل، تتساوى الصفعة والأغنية أخيراً، لتجعلا من الإرهاب خطيئة أصلية تسم الأبناء، قبل أن تتدرّب الأكفُّ على التوتّر، أوتتمرّن الحناجرُ على الإيقاع.
لو وضعنا التاريخ كلّه جانباً، لما صعب على أيّ كان، حين يرى الجندي المحتلّ يعصر أخا عهد أو يجرّ أمها إلى المعتقل، أن يفهم كيف يمكن أن تستحيل النعجة لبوءة. قد يكون هذا الاستفراس كثيراً على فتاة في مقتبل الربيع، لكنه ليس كذلك في امتحان الفلسطيني الدائم للبطولة، بدل أن تكون طاقة المواجهة الشرسة التي تكتنزها شخصيّة فتاة كعهد درساً للتأمل في ما يُفضي إليه الاغتصاب من تحويل الأمل بحياة سويّة إلى طاقة تدمير. وكيف يقود الظلم إلى تشويهٍ للجمال والبراءة. بدل هذا كله، كان علينا أن نرى الخفّة في نقل سمة الإرهاب من الظالم إلى المظلوم، في أكبر فضائح العصر.

اقتيدت عهد إلى السجن، بلا شك، مكللة بمدائح الشرفاء وتضامنهم، ونعلاها تخوضان في بحر من الشتائم. لم يبخلْ عليها أبناء جلدتها بالقصائد. حتى وُجد بين الإسرائيليّين من جاد عليها بقصيدة عصماء.
ولكي تكتمل المأساة، كان لا بد على الجانب الآخر من الحلبة، أن تفسح ساحات التواصل مكاناً لخطاباتٍ وسجالاتٍ من نوع آخر، يسوقها، هذه المرة، معادون للاحتلال ومتعاطفون مع قضية وعد وحقوق شعبها العادلة. لكنها هي الأخرى تصدر من تشقّق في جدار الصمود، طال ولم يحسن أحدٌ رأب صدعه. يمعن بمرارة في إنكار ما للطفولة من حقّ في الرفرفة والطيران، أو حق العصافير في أن تغادر أعشاشها بأمان، أوالتغاضي عمّا لمشاعر التمرّد من فائض قوة يحوجه الاحتضان، لا القمع. فلم يتأخر عن خوض المعمعة من لم يجد في شراسة عهد وتجرّئها على صفع جندي، غير علامة على سوء تربية، أو تصرّفاً ينطوي على رعونةٍ لا تليق بفتاة سليمة. كذلك لم يقصّر من يعتبر شعرها المرسل والطليق تطاولاً على العادات والتقاليد، أو تحدّياً للأخلاق الحميدة، أو تهديداً للهوية الجامعة.
أن تولد منال في بلد أوروبي، وتتقن أربع لغات وتتابع دراسة الأدب الإنكليزي، أو أن تتقن العزف على آلتي الغيتار والبيانو، أوأن يكون الغناء والموسيقى شغفها وبهجة حياتها، كما تعلن، أو أكثر من ذلك، أن تتقدّم أمام حكّام برنامج "ذا فويس" بأغنية لمغنٍ من أصول يهوديّة، فذلك كلّه زبدٌ لا يقاس عليه، وقشرة لا يعتدّ بها. فنزعة الإرهاب، وكراهية الآخرين، ومعاداة الساميّة، جوهر متأصّل لا تكشفه القيم التي تنطوي عليها هذه المزايا جميعها. الجوهر ينكشف فقط، حين تتقدم الفتاة المسرح مرتديةً الحجاب. ففي ذلك علامة سوءٍ لا تشوبها شائبة، ونزوع إلى التطرّف لا رادّ له.
هكذا يتضافر الشحن والضغن مرة أخرى، في حربٍ شعواء تطاول الفتاة السورية الأصل، منال ابتسام، في ساحة الإعلام التواصليّ، مثيرة غبار العنصريّة. ومخلفةً وراءها وحولاً يغتني بها قاموس العداوة ويسمن. وتنتفخ بها تنظيماتٌ وأحزاب على مدى العالم. ولم يطلِ الأمر بالباحثين عن أدلّة دامغة، زيادة في تأكيد المؤكّد، أن استنجدوا على منال بماضيها، فوقعوا على تهمة ترويجها ذات مرة، كتابا ألفه الباحث الإسلامي طارق رمضان. كما وقع آخرون على كلام لها، تتّهم به السلطة الفرنسية بالإرهاب. ففي ذلك طعن بحقيقة راسخة لا يجوز تعريضها لشكّ، وتطاول على العزّة الوطنية لا ينفع التساهل في شأنه.
طبعاً يليق بنيتشه أن يفكك إرهاب السلطة. وبدون شك، يحق لآنا أرندت أن تحلل آليّة تكون إرهابها. وبالتأكيد، يحقّ لجورج أورويل أن يتمثل هذا الإرهاب رواياتٍ جليلة. أما أن يكون لفتاة يجري في عروقها دم غريب، وفوق ذلك ترتدي حجاباً، وترى في السلطة إرهاباً، فهذا تطاول لا العقل السليم يقبل به، ولا يجيزه العدل بين الأمم.
الصوت الرخيم والشغف بالموسيقى، ومعهما حبّ الأدب، كما الحضور الرهيف والوجه النضر، كيف يمكن لها أن تستوي جميعاً في حضرة الإرهاب؟ تلك هي عناصر المحنة التي يصعب الخروج من مأزقها، من دون استدراج المآخذ وفحص النوايا، لاستخراج آفة الإرهاب الدفينة
تحت هذه الجمالات. ولكي يبقى المنطق سليماً والرؤية واضحة، لا يعكّر صفاءها تشويش من أية جهة، لن يمرّ أمثال منال على شاشة الحضارة. وهكذا كان.
كيف على منال الآن أن تعرف أنها هي أيضاً غير مرحّبٍ بها بين جميع الأهل. فعلى الضفة الأخرى، ثمّة من يحسب صوتها الغرّيد عورة وشرّاً يجب خنقه في المهد. فبين الذين جاهروا طويلاً في محبة أرض عهد وأهلها وصمّوا آذاننا بدق الطبول لاسترجاع بيت عهد من مخالب الوحوش، وقف الغناء عثرةً في مسيرتهم المظفرة على طريق التحرير. هكذا حمى "المقاومون" في بيروت آذان أبنائهم من صوت فيروز وختموا بالشمع الأحمر على "شوارع القدس العتيقة" و"جسر العودة".
أمر واحد يمكنه أن يعفي الجميع من معارك وخيمة كهذه. على عهد أن توضّب شعرها المرسل، وتتحلى بالرقة الضرورية لفتاة مستقيمة. وعلى منال أن تستظل جناحي أهلها الذين لم يشجعوها يوماً على الغناء، وتحتفظ بهدوئها والحجاب، وتمسك صوتها عن آذان المستمعين. هكذا تتوحّد الساحة، ويرمي المحاربون أسلحتهم على الأرصفة، ويعمّ السلام.
0994325B-4567-471E-81DA-5F1B1FA14B5C
0994325B-4567-471E-81DA-5F1B1FA14B5C
إميل منعم

رئيس القسم الفني في "العربي الجديد"، فنان تشكيلي

إميل منعم