عهد أوباما: تناقض صارخ... وفرص ضائعة

22 يناير 2017
مساعي أوباما تحولت إلى ضغوط على الفلسطينيين (أليكس ونغ/Getty)
+ الخط -
إذا كان من علامة فارقة لتعامل رئاسة باراك أوباما مع القضية الفلسطينية، فهي أنه جمع في السعي إلى حلها بين الصدقية العالية والعجز الفاقع في آن. ففي حين كان أوباما من أكثر الرؤساء الأميركيين جدّية في ترجمة حل الدولتين، إلّا أنه كان في الوقت ذاته متقدّماً عليهم وبأشواط في السخاء على إسرائيل بالدعم وبتأمين المزيد من أسباب التفوق، كما في الحرص على مراضاتها وتطمينها بحسبانه أن ذلك من شأنه أن "يشجعها على اتخاذ القرارات الحاسمة". الأمر الذي نسف الفرص التي كانت متاحة لحمل تل أبيب على التزحزح. وكأنه كان المطلوب منها التكرّم والتبرّع بشيء من لدنها وليس حملها على الانسحاب من أرض محتلة تعمل على نهبها بالقضم المتحايل على القوانين والأعراف والمعاهدات الدولية وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على المحتل التصرف بأوضاع المناطق المحتلة.
وهنا تكمن العلّة في مقاربة أوباما للصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتي قادته إلى استخدام المفاتيح المغلوطة لولوج باب التسوية. فاته أن إسرائيل تأخذ ولا تعطي مقابل الأخذ وأن السوابق، وخاصة تجربة أوسلو، تؤكد بأنها لن تفي بالتزاماتها في تلك الاتفاقية إلا إذا أجبرت على تنفيذها. تجاهل أن أميركا قادرة على إلزامها. تهيّب وانكفأ. الأمر الذي حكم على محاولاته هو ووزيره كيري، بالفشل البائس الذي تواصل على مدى ثماني سنوات والذي سهّل بالتالي تغوّل الاستيطان. بل أدى إلى استئساد رئيس وزراء إسرائيل حتى على رئيس البلد الذي طالما كان وما زال ولي نعمة كيانه. 

صحيح أن العلاقات بين إسرائيل وأميركا تقوم على ركائز أقوى من أن يعصف بها التنافر الشخصي بين قيادتيهما، قوتها ليس لأنها تحالفية فقط، هي أبعد وأعمق. إنها علاقة احتضان أميركا لمشروع الدولة العبرية. احتضان يجد تعبيراته في أكثر من ناحية، أهمها المساعدات السنوية التي جرى تجديدها قبل أشهر لمدة عشر سنوات وبزيادة قفزت معها من 3 مليارات دولار سنوياً إلى حوالي أربعة، مع أن إسرائيل دولة غنية وليست بحاجة إلى المساعدة. ويشار إلى أن الكونغرس اعترض في معظمه على أوباما لأنه لم يذهب في الزيادة إلى ما فيه الكفاية، مع أنه، أي الكونغرس، يمانع الموافقة على مشاريع بسيطة أحياناً بزعم تحاشي المزيد من العجز في الموازنة. سخاء يعكس التوكيد على علاقة التبني التي تكوّنت بفعل عوامل تاريخية وثقافية وسياسية، عززها الحضور اليهودي الأميركي الناشط والفاعل في سائر المجالات السياسية والمالية والإعلامية والأكاديمية والفكرية الأميركية. بنتيجته ترسخت صورة إسرائيل في الوعي الأميركي وصارت وكأنها جزء من النسيج الأميركي. ولحماية هذه الوضعية الممتازة، أقام نواطيرها المؤسسات المنخرطة في صميم الحياة الأميركية السياسية والاجتماعية وعلى رأسها اللوبي الإسرائيلي الذي تحوّل إلى جهاز نافذ ومؤثر في صناعة القرار، وبخاصة في الكونغرس الذي يمثل عرين النفوذ الإسرائيلي في واشنطن.

مع ذلك لم تكن الأبواب موصدة تماماً أمام أوباما للقيام بخطوة فلسطينية نوعية. ظروف الساحة الداخلية كانت تسمح له بحرية الحركة أكثر للجم الانفلات الإسرائيلي. فقد تنامى في السنوات الأخيرة التأييد لحل الدولتين في صفوف اليهود الأميركيين. واكب ذلك تزايد الاستياء الأميركي واليهودي أحياناً من تنمّر نتنياهو وتحديه للرئيس أوباما. كذلك كشفت الاستطلاعات أن الجيل الجامعي الجديد من الأميركيين ومنهم اليهود، خاصة المحسوب منهم على الحزب الديمقراطي، خفّت حماسته تجاه إسرائيل. انعكس ذلك في تجاوبه مع التحركات التي شهدتها أوروبا قبل نيف وسنة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية المصنعة في المستوطنات. وقد حصل حراك طلابي أميركي في هذا الخصوص. يضاف إلى ذلك أن بعض الإعلام المؤثر كان بين الحين والآخر، يخص التوسع الاستيطاني الإسرائيلي بالنقد ولو الخجول.

مع انطلاق الإدارة بخطة العشرة أشهر في يوليو/ تموز 2013، تراءى بأن أوباما ربما يكون قد حزم أمره. تحديد سقف زمني للمفاوضات مع تشكيل فريق أميركي من الخبراء المختصين، حمل على الاعتقاد بأن المسالة جدية وأن هناك نوعاً من العزم على حسم العملية خلال الفترة المحددة. تعزز الاعتقاد عندما بدأ يتسرب بأن الوفد الأميركي طرح أفكاراً وخرائط مع تقديم ضمانات أمنية غير مسبوقة لإسرائيل.
لكن في النهاية تبين أن الهبّة لم تكن أكثر من فقاعة صابون. وكان ذلك بمثابة تحصيل حاصل. فالإدارة دخلت في المشروع بعزم مفقود. بقيت تردد ولا زالت حتى اللحظة، بأنه ليس بوسع واشنطن "فرض حل" بزعم أنها "لا يمكن أن تريد السلام أكثر من أصحاب العلاقة"، وبالتالي فإن نجاح المفاوضات مرهون "بإرادة الفريقين" ومن خلال "التفاوض المباشر بينهما". مساواة متعسفة بين المحتل والذي يعاني من الاحتلال. وهذا تماماً ما كانت تريد إسرائيل سماعه. وبذلك كانت العملية أشبه بمسرحية لانتزاع الرضوخ الفلسطيني وإلا الإعلان عن نهاية المحاولة. وهكذا كان.

عند هذه النقطة وعلى فرض أن الإدارة لم تقو على التوفيق بين الطرفين، فعلى الأقل كان المطلوب منها العمل على وقف زحف الاستيطان. لكنها عجزت، أو بالأحرى تصنّعت العجز، فاستضعفتها إسرائيل. في مارس/ آذار 2010، أعلنت عن بناء 1600 وحدة سكنية، فيما كان نائب الرئيس، جو بايدن، يقوم بزيارة رسمية لها. وبالرغم من تكرار حلقات هذا الزحف الذي استهدف خنق مشروع الدولة الفلسطينية، بقي رد فعلها الباهت على حاله: "نحن لا نقر بشرعية الاستيطان... وهو يشكل عائقاً في طريق السلام"، فقط لا غير. لا كلفة ولا حتى تحذير. المستوطنات تتمدد وواشنطن تتفرج، إلى أن قررت الإدارة بالنهاية وقبيل رحيلها بشهر أن تخرج عن خطابها الممل في كلمة للوزير كيري اعترف فيها بأن الاستيطان كان العقبة وأنه يكاد أن يقضي على احتمال إقامة دولة فلسطينية.

سبق ذلك أن استجمعت الإدارة شجاعتها لتمتنع عن التصويت على قرار لمجلس الأمن يعتبر المستوطنات "غير قانونية". اعتراف مطلوب. وكذلك الامتناع. لكنهما متأخران جداً. ربما شكّل القرار نقلة لبداية وضع الملف في عهدة الأمم المتحدة وكسر احتكار أميركا له. لكن أهميته بقيت منقوصة طالما لم يتبعه قرار آخر يعترف بالدولة الفلسطينية. وكان قد تردد خلال 2016 أن أوباما ينوي الإقدام على خطوة من هذا العيار التاريخي قبل مغادرته، ثم قيل إن الرئيس يتروى لما بعد انتخابات الرئاسة. بعدها سرت معلومات بأن الرئيس ربما يكون قد عزف عن هذا التوجه لأن كلينتون خسرت الانتخابات وأن ترامب قد يتراجع عن الاعتراف لو حصل. ثم راجت تكهنات بأن مؤتمر باريس قد يتمخض عن استصدار قرار من مجلس الأمن في هذا الخصوص. في النهاية تبيّن أن كيري حضر وشارك في هذا المؤتمر ليضمن "تليين لغة" البيان الختامي حتى لا يخدش الحساسية الإسرائيلية، كما ليؤكد لنتنياهو بأنه "لن يكون هناك قرار آخر في مجلس الأمن" يعترف بدولة فلسطينية.

العطب الرئيسي في تعامل أوباما مع إسرائيل، أنه اعتذاري واسترضائي. كان أسخى رئيس أميركي في دعم وتعزيز تفوق تل أبيب. وبالنهاية لم يبادله نتنياهو بغير المشاكسة. لم يقو أن يكون إيزنهاور آخر. في أقله بالنسبة للمستوطنات.
المساهمون