عن مسرح العبث في العراق

09 يناير 2019
+ الخط -
سألت مغتربا عراقيا انقطع عن بلده عقدين، وعاد إليه في زيارة حنين قصيرة، عما لاحظه جديدا هناك. قال: "لعلك تتذكر حكاية فلاديمير واستراغون عند صموئيل بيكيت، واللذين قضيا عمريهما في انتظار غودو، يحلمان بمجيئه حاملا الوعد بخلاصهما، ولأن غودو لم يأت، وربما لن يأتي أبدا، فقد ظلا ينفقان أوقاتهما في حوار عبثي، يشبه حوارا بين طرشان.. في العراق رأيت الناس وقد انقسموا بين فلاديمير واستراغون، وقد تحوّل البلد إلى مسرح عبث كبير. رأيتهم يتحاورون، يختلفون، يتفقون، يتخاصمون، ويتشاجرون، يرسمون سيناريوهات التغيير، ويتبادلون المعلومات عن انقلاباتٍ وهمية، وحشود عسكرية، وبيانات طوارئ، ثم ما لبثوا أن ضحكوا وتبادلوا الطرائف والنكات في انتظار غودو الذي تأخر عليهم كثيرا..".
تابع المغترب العائد، وكأنه يتابع مسرحية عبثية: "سمعت لغطا في أكثر من زقاق وشارع عن زيارة الرئيس الأميركي، ترامب، قواته في العراق، يصنعون منها نكاتا مرّة، ويرسمون لها سيناريوهاتٍ كاريكاتورية. يتسلل ترامب، من دون أن يخبر أحدا، تطفأ الأنوار كي لا يراه أحد، الرجل الأول في دولة العراق يصل إليه علم متأخر بالزيارة. ينفي العراقيون وجود قواعد عسكرية أميركية في بلاهم. يقولون: لا وجود لقوات أميركية، لدينا بضعة مستشارين فقط". تصفعهم تقارير وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)؛ "في العراق خمسة آلاف جندي وضابط في ثماني قواعد". في النهار التالي، يظهر الجنرالات الأميركيون مزهوين برتبهم العسكرية ونياشينهم في شارع المتنبي في بغداد، شارع الثقافة والمثقفين، يتبادلون الأحاديث مع بعض رواد الشارع، وكأنهم يريدون أن يقولوا: "نحن هنا باقون". قالها قبلهم ترامب، وهو يزور القاعدة، فيما صمتت "المليشيات" التي هدّدت الأميركيين بعظائم الأمور.

روى لي بعض من أعرف حكاياتٍ عن رئيس الوزراء الجديد الذي لم تكتمل حكومته بعد، عادل عبد المهدي، وهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى. يريد مخلصا أن تكتمل حكومته، لكن المعجزة تأبى أن تحضر. ولذلك يشكلها على أقساط، وثمّة رهاناتٌ ماليةٌ على المرشحين للمقاعد الباقية، وخصوصا على وزيري الدفاع والداخلية، والمنافسة حامية بين أسماء عديدة، وسعيد الحظ من يحصل على قيمة الرهان.
رأيت أناسا يتابعون واقعة إطلاق رصاص من امرأة عضو في البرلمان، وهي تتجول بسيارتها في شوارع بغداد، برّرت فعلتها بأنها "بنت عشاير" تحتفل بزفاف قريبٍ لها. والقانون العراقي يحاسب مطلق النار بالسجن، غير أن لبنات العشائر وأبنائها، على ما يبدو، حصانة خاصة تسمح لهم بانتهاك القانون، من يدري.
سمعت أناسا يتحدّثون عن أعمال عنف، وحرائق مجهولة الفاعل، جديدها حريق دار حماية المشرّدات الذي أودى بحياة تسع فتيات، وإصابة أكثرمن ثلاثين. اللافت أن الحكومة قالت إنها حادثة انتحار جماعي، كيف ولماذا؟ وما هو سر انتحار الفتيات التسع، وهن في عمر الزهور. وفي بلد يقال عمن يحكمونه إنهم رجال الله على الأرض؟ لا أحد يعرف.
التقيت أناسا يتداولون علنا حكاياتٍ لم يعف عليها الزمن بعد، جرائم سبايكر، والفلوجة، وتسليم الموصل لمسلحي "داعش"، وعقود السلاح، وجفاف الرافدين، وتسمم الأسماك، والتفجيرات، والاغتيالات، وقصص آلاف المعتقلين السياسيين وأسرهم، وملايين النازحين والمشرّدين، ومسلسلات لجان التحقيق، وسرقات المال العام، وانتشار تعاطي المخدرات في الجامعات والمدارس، وسيادة أعراف العشائر في عدد من مجالات المجتمع. وحول كل هذه المصائب وغيرها ثمّة ألف سؤال جارح على كل لسان، لكن لا من سميع، ولا من مجيب".
"هل تريد مزيدا من عجائب مسرح العبث العراقي وغرائبه؟". صمت المغترب العائد هنيهة، قبل أن يطلق حكايته الأخيرة: "الحق أقول إنني سافرت إلى بغداد على وقع حنينٍ لم أستطع التخلص منه. وبعد أيام من تجوالي هناك، وجدتني أسأل، كما سأل المتنبي قافلة أبله، وهي تتقدّم نحو الكوفة "أين أرض العراق؟"، وقد جاءه الجواب في موضع تربان الحجازي: "أرض العراق أمامك.. على مد النظر". أما أنا فقد أدركت، بعد مزيد من سير حثيث، وتجوال مجهد، أنني أقف على أرض العراق فعلا، لكنني اكتشفت أن إكسير الحياة لم يعد يسكن فيها، وقد انصرف سكانها عن واقع الحال، إلى درجة أنهم لم يملكوا في مواجهة ما يجري أمامهم سوى السخرية المرّة، والضحك الذي يشبه البكاء، وكأنهم في مسرح عبثي كذاك الذي جسده صموئيل بيكيت".
هل يا ترى نجح الاحتلال في تحويل العراق إلى مسرح عبث حقا، وهل من معجزة تعيد إكسير الحياة إلى أرضه؟
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"