عن مذيع السلطة ودعوة محمد علي الجديدة في مصر
(1)
يبعث الجدال الذي يثار بشأن وفاة شخص ما له مواقف سياسية مثيرة، تساؤلات متكرّرة في المجتمع المصري، مثل: هل يجوز الترحم على المتوفى على الرغم من أفعاله في الدنيا، خصوصا إذا كانت أفعاله مخالفة لنا؟ هل يجوز طلب الرحمة لشخصٍ مخالف لنا في الدين والعقيدة؟ هل يجوز الترحم على شخص مختلف معنا سياسيا أو كان خصما شرساً؟ هل يجوز الترحم على من قد نعتبره مجرماً، حتى إن كان بعضهم يعتبره غير ذلك؟
ثار الجدال (والتلاسن) نفسه على الإنترنت عند وفاة رؤساء سابقين أو سياسيين أو فنانين كانت لهم حياة صاخبة أو آراء صادمة، وكل من له موقف مختلف أو أفعال مثيرة للجدل تجد عند موته من يحاول منع رثائه أو الترحم عليه، فتجد الذي يرثي متوفى، ويلعن آخر، حسب مدى تطابقه مع قناعاته أو أفكاره أو عقيدته أو مواقفه السياسية. وهناك من يحاول أن يكون أكثر هدوءا، قائلا إن عند الله تجتمع الخصوم، أو إن من مات له ما له وعليه ما عليه.
توفي قبل أيام مذيع مصري شهير كان من أبواق السلطة في مصر، بعد إصابته بفيروس كورونا، وكان يشتهر ببذاءة لسانه ضد كل من يعارض السلطة الحالية أو ينتمي لثورة يناير، وكان يحرّض على كل من له رأي مخالف. بالإضافة إلى دوره الدائم في نشر الشائعات والأكاذيب والقصص المغلوطة عن ثورة يناير ورموزها، وتسبب في إصابة بعضهم بالأذى، بسبب تحريضه على كراهية بعض الأسماء المعروفة المرتبطة بثورة يناير، وكنت ممّن تعرّض لهم بالمناسبة، فقد خصص لي حلقات كاملة لرواية قصصٍ لا أعلم عنها شيئاً، بعد حديثه في عديد من حلقاته المؤيدة للسلطة والكارهة لثورة يناير ولكل من شارك فيها.
وصل إعلاميون مصريون إلى عمق كبير في مستنقع الفساد من الصعب الخروج منه
هناك من تحدّث عن أن وفاة ذلك المذيع بعد إصابته بكورونا يجب أن تكون عظةً لباقي الإعلاميين المنافقين، غير أنني لا أعتقد أن هناك من سيتعظ، بل سيزداد بعضهم غيا وقسوة، فأفراد تلك الفئة من الإعلاميين وصلوا إلى عمق كبير في مستنقع الفساد من الصعب الخروج منه، مصالح متشابكة وهدايا وصفقات مشبوهة، وهذا ما يجعلهم يعاندون إلى آخر لحظة، ويظلون في طغيانهم يعمهون، وعند موتهم قد تحولهم السلطة أبطالا ورجال واجب، أو ربما لا يذكرُهم أحد كأن لم يكونوا، وأيضا ربما يكون التاريخ منصفا، فغوبلز كان سياسياً لامعاً في النظام النازي، وكان من أكثر المقرّبين إلى هتلر وأكثرهم تفانيا، يذكره التاريخ الآن بأنه الشخص الأكثر شرّا في النظام النازي، لأنه كان بارعا في تزييف الحقائق وقلب الأمور، أصبح في مزبلة التاريخ كما يقولون. ولكن من يعلم، لو انتصر هتلر في الحرب لربما كان غوبلز مذكورا في التاريخ ملاك الرحمة ومناضلا مدافعا عن الحق والعدل.
لو انتصر هتلر في الحرب لربما كان غوبلز مذكورا في التاريخ ملاك الرحمة ومناضلا مدافعا عن الحق والعدل
ولذلك، كانت مشاعري متضاربة في هذا الموقف، فأنا لست من أنصار التشفي أو الشماتة بعد الموت مهما كانت الخصومة. ولكن هذا المذيع قد تسبب لي في أذى كثير بشكل شخصي، وتسبب في الأذى لعائلتي، بسبب ما كان يروّجه من أكاذيب، بالإضافة إلى دوره في نسج قصص وهمية كثيرة عن ثورة يناير والمؤامرة، ما تسبب في بعض التهديدات أو المضايقات من موتورين ومهابيش من مؤيدي الفاشية، ولكن هل يفيد التشفي في موته بشيء؟ سبحان الله .. عند الله تجتمع الخصوم وكفى.
(2)
بمناسبة الجدل المتكرّر أيضا، هناك بعض الجدل تلك الأيام بشأن تلك الدعوة إلى التظاهر التي أطلقها الفنان محمد علي أخيرا، والتي يحين موعدها في ذكرى دعوته الأولى للتظاهر في العام الماضي. وكما كان متوقعا، بدأت حملات تفتيش الهواتف المحمولة في الشوارع، وحُبِس مارّة كثيرون عشوائيا، بالإضافة إلى حبس بعض النشطاء، وإلغاء قرارات إخلاء السبيل لنشطاء آخرين، كانوا في طريقهم إلى الخروج من الحبس.
لم تختلف هذه المرّة عن المرّة السابقة، فدعوته بالأساس قبل عام كانت لأسباب شخصية خاصة بعقود عمل مع القوات المسلحة، وإن كانت أحاديثه مغلفةً بخطاب سياسي ذكي، قد يكون لكثير منه وجاهته. ولكن بغض النظر عن دوافعه، كان اختلافي وقتها واليوم حول فكرة "إنزل وبعدين نشوف"، فللدعوة من الخارج إلى الجماهير داخل مصر للتظاهر والنزول لمجرد الغضب سلبيات كثيرة، إن كان لها أي من الإيجابيات.
ربما كان النزول للتعبير عن الغضب في عهد حسني مبارك ضرورة، فقد كانت هناك حاجة لإيقاظ الناس بعد سبات طويل استمر عشرات السنوات، وكان وقتها هناك اتفاق كبير بين من يمكن وصفها بقوى المعارضة من اليمين إلى اليسار. كان الجميع متفقين على أن مبارك استمر سنوات طويلة، وجرف البلاد، وأثبت فشله في الإدارة، ولم يعد نظامه قابلاً للإصلاح. وعلى الرغم من التوافق على ضرورة رحيل مبارك أولاً، قبل إقامة نظام سياسي جديد، فإن التجربة حدث فيها كثير من التخبط والصراعات بعد خلع مبارك وثورة يناير 2011، فقد طفت على السطح الموضوعات الخلافية المدفونة التي تجاهلناها قبل الثورة، والتي لم يتم حسمها، وكان لها الدور الرئيسي في تفجير التجربة، ووصول العسكر إلى السلطة.
الخلافات اليوم بين مكونات ثورة يناير أصبحت أكثر عمقاً، وفي ظل استمرار المجهود النظري للإجابة عن الأسئلة المهمة
كان هناك كثير من التوافق الظاهري واحترام الآخر قبل 2011، على الرغم من الخلافات التاريخية الموجودة منذ السبعينيات بين الإسلاميين من جانب واليسار والقوميين والليبراليين من جانب آخر، أو الخلافات بين التيار الليبرالي واليسار، أو بين اليسار والتيار القومي العروبي، أو بين التيارين القومي والليبرالي، فبرزت تلك الخلافات التاريخية المتجذّرة في العالم العربي عندما غابت السلطة القمعية، وبدأ السباق والصراع بين مكونات ثورة يناير، فما بالك الآن، والخلافات أصبحت أكثر عمقاً، وفي ظل استمرار المجهود النظري للإجابة عن الأسئلة المهمة، ووضع إطار سلمي أو عقلاني لحل الخلافات الأيديولوجية والتاريخية؟
هذا من جانب النظرية ومشكلاتها التي أدت إلى تفجير التجربة من الداخل. أما بالنسبة للفعل والجانب العملي، فما المكسب أو الفائدة قصيرة المدى أو طويلة المدى، وما الذي سيعود من دعوة بدون برنامج أو خطة لن تؤدي إلا إلى مئات وربما آلاف الحالات من الاعتقال العشوائي؟
المطالبة بالتصرّف العقلاني والمنطقي في مواجهة سلطةٍ لا تحتكم للعقل والمنطق قد تكون خطاباً مثالياً
بالتأكيد، السلطة الحاكمة والأجهزة الأمنية هي المسؤولة عن تلك الاعتقالات، كما أن إعادة الحبس بعد إخلاء السبيل تعمل بشكل تلقائي في الآونة الأخيرة، ولكن تلك الدعوات العشوائية مثل دعوات محمد علي تسرع في الوتيرة، وتعطيها سببا للهلع والإجراءات الاستباقية التي يظلم بسببها آلاف الأبرياء.
أشاهد، أحيانا، برامج تقدّمها بعض القنوات المعارضة المصرية في الخارج، فأجد فيها كمية ضخمة من المبالغات والمعلومات غير الحقيقية التي تماثل تلك المغالطات في القنوات الداعمة للسلطة في مصر. ولكن الحل ليس في المبالغة، ومحاولة تهييج الرأي العام بالمعلومات غير الدقيقة، بل إن المصداقية والحوار العقلاني ونشر الوعي والثقافة هي الطريق الأسلم والأفضل. أعلم أن المطالبة بالتصرّف العقلاني والمنطقي في مواجهة سلطةٍ لا تحتكم للعقل والمنطق قد تكون خطاباً رومانسياً أو مثالياً، ولكن لو كرّرنا مثل أفعالهم، فما الفارق بيننا وبينهم.