عن كل هذا العنف .. عن السياسة والأنسنة

21 فبراير 2020
+ الخط -
تتكرّر منذ بدايات "الربيع العربي" كتابات وتصريحات بخصوص بنية "العقل العربي" والثقافة العربية والنفسية العربية وما شابه ذلك. ويقترح جلُّها، إن لم يكن كلُّها، تفسيراً للعنف في بلاد العرب يرجعه إلى أصول راسخة، وخصائص ثابتة ممتدة في التاريخ وصولاً إلى اليوم. وتجتمع فيها عدد محدود من الفرضيات، وربما من المعتقدات التي تفترض في العربي تطرّفاً بنيوياً يسوّغُ الاستبداد. ومن المفيد الإشارة إلى أن هذه الفرضيات (وفي الأصح المعتقدات) ليست من بنات أفكار القائلين بها اليوم؛ فيها من الاستعادة ما يستوجب السَّبْر، وفيها من المحتوى ما يتطلب التوقف إزاءه. 
وبالطبع، تنطوي مثل هذه الفرضيات على مفارقاتٍ تراجيدية. من ذلك، كما سنرى، التوصل إلى القول إن ماهية العربي الراسخة منذ القدم تحول دونه والتقدم الحضاري، ولا تؤهله لغير أن يكون موضوعاً لمعالجةٍ هي بالتعريف الضروري خاصة. تبلغ التراجيديا ذروتها حين يلتقي القائلون بذلك مع عنصرية المحافظين الجدد، ومنهم برنارد لويس، ويكرّرون مقالهم الذي أرادوا له أن يُسوّغ الاستراتيجيات الإمبريالية العدوانية باسم محاربة "الإرهاب" وعالمية ميدان المعركة ضده.
ما حثني على ذكر ما سبق ليست استراتيجية المحافظين الجدد، بل مُحفِّزان آخران. أولهما ما قرأته قبل أيام لشاعر عربي كبير، أُكنّ له في نفسي مكانة خاصة، بشأن أن الماضي هو الذي لا يُنسى، وأن الكارثة بالنسبة للعربي اليوم أن هذا الماضي هو المنتج للحاضر أي للتاريخ وإذن "للمستقبل"، بحسب لغته الأنيقة. والثاني مقالة عنوانها كان يوماً، وما يزال، موضوعاً مركزياً من تأملاتي وهو "من أين يأتي كل هذا العنف؟". وأعترف بأن عنوان هذه المقالة الثانية (وليس محتواها) حثني على استرجاع مساءلاتي في سنوات السبعينات والثمانينات بخصوص العنف الذي اشتعل في المشرق وقتئذ، وفي سورية ولبنان على وجه الخصوص. لكن المساءلة التي في العنوان لا تحيل إلا إلى (هذا) العنف الذي انفجر بين ظهرانينا في وضح النهار. ومن الضروري أن أبيّن أنّ تعاملي مع هذين النصين هو من قبيل المثال، من ناحية، ولأنهما يتكشّفان عن ظاهرةٍ منتشرةٍ أرغب في لفت الانتباه إليها، من ناحية أخرى.
ما يجمع بين النصين كبير. كلاهما يرتكز على أساس نظريٍّ واحد، بيانه أن العرب يكرّرون 
تاريخهم من غير توقف؛ وأن العرب المعاصرين يتحاربون اليوم، لأن ماضيهم ما زال راهناً، أي لم يتحوّل إلى ماض بعد، ولأن العقل العربي "المرتبط تاريخياً بالقبلية والعشائرية وصولاً إلى العائلية"، كما يقول الثاني، بات "محكوماً بعصبيتين" اثنتين تشرحان خاصتين مركزيتين من خصائص "العقلية العربية". أولاهما أن العرب المعاصرين لا يستطيعون الفكاك من ماضيهم، لأنه ببساطة حاضرٌ فيهم أبداً، إذ هو من صنف "ما لا يُنسى"؛ والثانية متصّلة بالأولى، وبيانها تعذُر تحرّر العرب من العَسْف والفساد، لأن بُناهم الاجتماعية والنفسية، وخصوصاً العقلية، لا تتيح لهم ذلك.
لا تغيير ممكن إذن؛ ولا فائدة من السعي إليه، فإذ يُنادي الشاعر الكبير بالحاجة إلى مؤسسات للنسيان، كي يصبح التغيير ممكناً، يتوجه الآخر إلى "النخب المُطالبةِ بالديمقراطية والدولة المدنية" بسؤالٍ يحمل في داخله الجواب الوحيد الممكن عليه هو التعذّر: "هل يمكن تحقيق هذين المطلبين بالقفز فوق الحامل الديني، بوضعه الراهن؟ حيث ما زال النص أسير القراءات المذهبية التي تُشّرع لامتلاكها الحقيقة".
وبعيداً عن الكلمات، نحن هنا إزاء عنصريةٍ فصيحةٍ لا تكاد تخفي مضمونها، أو المفارقات التي تنطوي عليها، فإذ تجمع إيديولوجيتها بين التعالي الاجتماعي والثقافي حيال الشعب الذي يُلقبه أنصارها بالعظيم وبالجماهير البطلة صاحبة السّيادة، لا يترددون عن رؤية هذا الشعب إياه على أنه يتكون من بشر استوطن في نفوسهم مرضٌ عُضالٌ لا برء منه، ويتطلب الأمر التعامل معهم 
بالطريقة التي تستوجب التعامل مع مرضى خطرين، وهي العنف الأقصى. ومعروفٌ أن أوروبا، في القرن التاسع عشر على وجه الخصوص، طوّرت عنصرياتٍ وظيفتها، كما لا يخفى، تبرير العنف الذي مارسته القارة العجوز بحق الشعوب المغلوبة، وتسويغ إخضاعها بالحديد والنار. من بينهم من تحدّث عن بنىً متأصلةٍ في الساميين (على غرار الفرنسي إرنست رينان مثلاً)، تعيد إنتاج نفسها ودونيتها في التاريخ. وتحدث آخرون عن واجبٍ أخلاقيٍّ، وعن مهمة تحضيرية، على الرجل "المتحضّر" أن ينجزها في التاريخ، قوامها أن يأخذ بيد الرجل "المُتخلفُ"، الرجل المُسْتعمَر، كي يضعه على سكّة التاريخ في مبنى البشرية الذي صوّروه على شكل هرم قمته في أوروبا.
ومن المفارقات التراجيدية لمثل هذا المقال أنه لا يُغلق أبواب التاريخ أمام جماهير أمته، ويلتقي بذلك مع أعدائها فحسب، بل هو يُسوغ العنف المستشري أولاً، والاستبداد المتغوّل ثانياً، ويتنكّر للشرط التاريخي الذي يوفّر إطارا الخروج منهما، وهو شرط السياسة ثالثاً. إنه في الأصح يبتعد عن فهم ظاهرة تاريخية، أي اجتماعية وسياسية بالتعريف، ويلجأ إلى توهماتٍ يقول إنها تحليل سياسي، ويسهم في تجذيرها، حين يزعم التحذير منها في آن.
بخلاف الشائع في اللغة الرائجة، ليس القهر والغلبة سياسة، بل تسلط عارٍ هو إلى الجريمة أقرب، فالسياسة هي تدبيرٌ لتنوع مكونات المجتمع؛ وهي فنُّ إدارة الأهواء الإنسانية؛ وبتوسّل التفاوض واستنباط الحلول الوسط، السياسة هي الضامن الوحيد للسلم الأهلي والنازع لفتيل الفتنة.
ثم إن غرض القمع والعسف وتكميم الأفواه والاعتقال والتعذيب هو أولاً كبح السياسة، أي كبح سيرورات أنسنة الإجتماع البشري الذي تضمنه السياسة، و/أو توفر له الإطار الصالح كي يستوطن في النفوس والبنى الاجتماعية وعلاقات الناس. ومن المفيد القول، في هذا السياق، إن ما أَطلق عليه مثقفون عرب اسم "اغتيال العقل"، هو في الأصح اغتيال للسياسة وتجفيف لمنابعها في المجتمع.
السياسة أنسنةُ، لأنها طريق التفاوض الدائم بين مكونات الجماعة البشرية في إطار الدولة، وهي بالتالي إلغاء للعنف، لأنها تلغي مبرّراته. في حين أن العسف والقهر يستولدان العنف، بما هما الحامل الموضوعي لهما. .. وإلا فمن أين يأتي كل هذا العنف؟
A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.