عن طفلة وُلِدَت مع ذاكرة ثقيلة

25 يوليو 2015
قصص لا تنتهي من الطفولة (Getty)
+ الخط -
كانت طفلة متطلّبة، كثيرة الاعتراض، لا يعجبها النوم على فراشها الممدّد على الأرض. لا يروق لها ثوبها الوحيد الذي تلبسه عندما تصحبها أمها في زيارات عائلية لا بدّ منها. ولا تحبّ شعرها المجعّد الذي لا يفلح في تنعيمه مشط، ولا فرشاة.

كانت تبكي كلّما حان موعد النوم وتقول لأمها إنّها تريد سريراً. كما لو أنّها اعتادت النوم على سرير واسع ذي مرتبة مريحة. وكانت تعيد على مسامع والدتها حكايات لا تنتهي عن ذلك السرير وعن ملابسها الفاخرة وأساور الذهب التي تخشخش في زندها.

كانت تسأل، وهي بعد في الرابعة من عمرها، أين ذهب كلّ ما كان لها. كانت عيناها دائمة البحث عن شيء مفقود لا تعرف كيف وأين فقدته. تتفقّد أرجاء المنزل وتجول بناظريها علّها تجد ولو شيئاً بسيطاً يثبت لأسرتها أنّ ما تقوله لهم صحيحاً وليس خيالاً.

كانت الأم تنشغل بأحلام فتاتها الصغيرة. أحياناً تضحك من خيالها الواسع، الذي يتّسع لأبعد ممّا تحويه ذاكرتها البصرية. فالفتاة لم تغادر قريتها يوماً، ولم يكن لدى الأسرة تلفاز في ذلك الوقت حتّى تشاهد النساء اللواتي يظهرن على شاشته متبرّجات ومهندمات ومزيّنات بالأساور والحلي. لكنّ الأم والأخوات يشعرن بالأسى أحياناً كثيرة على صغيرتهنّ التي تلحّ عليها مطالبُها إلى حدّ الإجهاش بالبكاء.

كانت أصغر أبناء الأسرة القروية، لها أربع أخوات وأخوين. وكانت مطالبها صعبة بالنسبة لأسرة تعيش كفافاً يكاد لا يكفي حاجاتها. إلى أن جاء يوم ووقفت قرب الشباك المطلّ على دار المنزل. الدار المفتوح أمام دور المنازل المجاورة، وراحت تنادي: "وديع... تعالَ وخذني إلى البيت". ليس من أحد تعرفه الأسرة اسمه وديع. فمن يكون وديع؟ والطفلة لم تلتقِ شخصاً بهذا الاسم يوماً؟ فكيف تريده أن يأخذها إلى البيت؟ وأيّ بيت؟

سألوها عن وديع، فأجابتهم بأنّه زوجها، وبأنّه هو من اشترى لها السرير والملابس والمجوهرات والأساور. كانت تناديه وتبكي بحرقة. مناداة وديع المستجدّة لم تقتصر على مرّة واحدة، بل تكرّرت مرّات. كأنّ الفتاة لم تحكِ كلّ ما لديها دفعة واحدة. فقد كان صندوق ذاكرتها كما لو أنه يُخرج مكنوناته على دفعات. في البدء كان السرير، ثم الملابس والفساتين، بعدها الأساور والذهب، والاعتراض على الشعر المجعّد الذي كان يتعبها، وصولاً إلى المُنادى وديع.

تعبت الأسرة لشدّة تعب ابنتها الصغيرة، لبالها المثقل بصور وخيالات تكاد تكون حقيقية، ولقلبها الحزين الذي صار ينادي بلا طائل. انشغلت الأسرة والأقارب بأخبار الصغيرة، حتّى انتشرت في أرجاء القرية. كان الزائرون والزائرات يأتون ليشاركوا الأسرة همّها. البعض كان يقول إنّها تحمل ذاكرة حياتها السابقة معها. كانوا يتناقلون حكايات أشخاص لم يولدوا كغيرهم من الأطفال. كانوا يحملون صفحاتهم المكتوبة معهم بدلاً من "الصفحات البيضاء".

هذا ما يتداوله الناس عن أصحاب الذاكرة المثقلة والمتنقّلة معهم عبر الأجيال. هم أشخاص ليسوا كالباقين، يتركون متاعهم وما يملكون، لكنّهم لا يتخلون أبداً عن ذاكرتهم. صفحات عقولهم لا يمحوها الموت، فتبقى محافظة على مخزونها السابق أو بعضه. وعند الولادة والكبر تتراكم الخربشات الجديدة فوق القديمة، أو بين سطورها، فتفيض بصاحبها، وتخرج مكنوناتها إلى العلن تعبيراً عن ضيق صفحات البال والذاكرة.

قد يكون تفريغ الذاكرة المحمولة من جيل إلى آخر، بمثابة الاعتراف، والتحرّر من ثقل عالمٍ غائبٍ نسي أن يأخذ معه كلّ شيء. أخذ ما هو حسيّ ملموس مثل الجسد وأشيائه، لكنّه نسي الأفكار والذكريات والصور، لخطأ غير مقصود، أو لأنّه كان مستعجلاً.

هكذا عندما تتحوّل الخربشات القديمة إلى كلمات منطوقة، وتتلاشى في الفضاء المحيط وتتبدّد، يرتاح قائلها ويترك المجال فسيحاً لما هو جديد ليحلّ محلها. ويبدو أنّ كلام الصغيرة وإفراغها ذاكرتها قد أراحها مع مرور الوقت.

اعتادت لاحقاً على أنّ وديع لن يأتي، وبيتها وفراشها وحياتها هي دنياها الحالية. رضيت. لكن بعد سنة أو أكثر، أخبرت أمّها هامسة أنّها رأت وديع يجلس قربها على السرير، ويمسح جبينها المتعرّق، وطمأنها بأنّه سيبقي أساورها ومجوهراتها لبناتها عندما يكبرنَ، وظلّ إلى جوارها حتّى أسلمت الروح.

اقرأ أيضاً: العم مصطفى: بين كعك العيد... والحبّ
دلالات
المساهمون