02 نوفمبر 2024
عن ضحايا قوارب الموت في تونس
شغل الحديث عن المهاجرين غير النّظاميين الناس في تونس هذه الأيّام. الكلّ يتحدّث عن القارب المنكوب الذي أقلّ زهاء 200 مهاجر، معظمهم من الشباب، وغرق في أعماق المتوسّط، على سواحل جزيرة قرقنة، وذلك بعد أن أصابه عطل فنّي وغمرته المياه، ما أدّى إلى مصرع 81، وفقدان آخرين فيما تمّ إنقاذ 68 من المهاجرين خلسةً. وقد اعترى الناس شعور بالفزع لما حصل، وتباينوا في تحديد مَن يتحمّل مسؤولية المأساة، فمنهم مَن يُلقي باللائمة على الحكومة، لأنّها لم تلتفت إلى بلورة إستراتيجية لإدماج الشباب، ومنهم مَن يعتب على الأسر لتقصيرها في الإحاطة بالأبناء، فيما يتّهم آخرون الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية بعدم الجدّية في تأطير الشباب والتفاعل مع مشاغلهم. ويذهب سواهم إلى تفسير ما حصل بوجود إخلالات أمنية فادحة. وتعدّدت الرّوايات في خصوص حيثيات الحادث، وتفاصيل ما أصاب المركب، حتّى غرق بجلّ راكبيه، فجاءت رّواية الجهات الأمنية مفيدة بأنّ شبكات التسفير السرّية غرّرت بالمهاجرين غير النظاميين، ودفعتهم إلى ركوب مركب متهالك، بعدما تقاضت منهم مبالغ مالية كبيرة. وجاء في أغلب شهادات الناجين، المبثوثة عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، أنّ القارب كان يمخر عُباب البحر، قاصداً إيطاليا فتسرّبت إليه المياه بعد ساعتين من الإبحار، بسبب حمولته الزائدة وسوء التصرّف من الرّبان الذي فرّ من المركب، وترك الناس لمصيرهم المجهول، فغرق مَن غرق ونجا مَن نجا.
يقول فريد الحاجّي (محافظة تطاوين): "كنّا زهاء مائتين، أغلبنا من الشباب، وأكثرنا من
المناطق الداخلية المهمّشة، جمعنا البحر وفرّقنا البحر، ركبنا القارب، ولم نكن نلوي على شيء، سوى أن نترك البلد ونُدرك لامبيدوزا (جزيرة إيطالية)، سئمنا العطالة والحُقرة هنا. وكنّا نطمح إلى حياة أفضل هناك، كنّا نعرف أنّنا نخالف القانون بما نفعل، لكنّ الأبواب هنا مغلقة في وجوهنا، لا أحد يسمعنا أو يبالي بنا. لذلك ركبنا قوارب الهجرة غير الشرعية. ورغم هول الصدمة لن أتوب عن "الحَرْقة" (الهجرة السرّية)، وسأفعلها ثانيةً، لو وجدت إلى ذلك سبيلاً" .
ويُضيف حسام الكدري (محافظة قابس): "كانت مغامرة صعبة ورحلة طويلة ومضنية، كنّا بين الماء والسماء، كان البحر الهادر أمامنا، وكان الليل الدّامس يلفّنا، عمّنا شعور بالهلع والخوف لا يوصف، غمرتنا المياه فجأة، وتعالى الصراخ والنشيج من كلّ ناحية في المركب، ونجوت من الموت بأعجوبة، إذ أمسكت بأحد الصناديق التي ألقاها أحد الصيّادين، وتمّ إسعافي لاحقاً...أقدمت على "الحَرْقة" لأنّي تبيّنت أنّ الدّراسة لا تؤدّي إلى الظفر بعمل قارّ، ورأيت المحاباة منتشرة، فغلب عليّ اليأس وقرّرت ركوب الهجرة السرية".
أمّا أكرم المحضاوي (محافظة تطاوين)، فدخل البحر مع اثنين من جيرانه، وخرج منه دونهما، ولا يدري مصيرهما، يقول: "ما زلت مأخوذاً بالصدمة، .. أكل البحر أصدقائي لأنّهم ينحدرون من مناطق طرفية، ومعظمهم لم يتعوّدوا السباحة ولا ركوب البحر، وكانوا في تمام ملابسهم. قلبي يعتصر ألماً مِن هَول تلك الليلة المُريعة، رأيت الموت بأمّ عيني، وصيحات الغارقين تُداخلُني في نَومي ويقظتي. لن أهاجر خلسة ثانية، كلّفني ذلك ما كلّفني. سأبقى هنا. سآكل من تراب هذه الأرض حتّى لا تلتاع والدتي".
تُخبر شهادات النّاجين وصيحات المحتجّين بواقع شبابي مأزوم، فالجيل الصّاعد الذي أدمته البطالة، وأضناه الشعور بالإحباط واللاجدوى، أصبح يرى في الهجرة السرية ملاذه الوحيد
وأمله الأخير. وفي هذه السياق، جاء في المؤشر العربي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2017) أنّ 28 %من المستجيبين التونسيين يرغبون في مغادرة البلاد. وأوضح 79% منهم أنّ ما يدفعهم إلى الهجرة هو تطلّعهم إلى تحسين وضعهم المعيشي. لذلك فالحاجة أكيدة لإخراج هذه الفئة من المواطنين من حالة التهميش الشامل إلى فضاء الإدماج الشامل، والعمل على توطينهم في البلاد، بدل دفعهم إلى ركوب قوارب الموت. والواقع أنّ حادثة غرق المركب دالّة وحمّالة أسرار مُلغزة، وتثير أسئلة كثيرة: كيف تحرّكت شبكات الهجرة غير الشرعية ونشطت؟ كيف استقطبت هواة الهجرة خلسة وسفّرتهم، من دون أن تنتبه الأجهزة الأمنية إلى ذلك؟ حتّى متى سيبقى شباب مناطق الظلّ فريسة الفقر والبطالة وقوارب الهجرة القاتلة؟ لماذا لا يتمّ اتخاذ تدابير ردعيّة صارمة ضدّ المشاركين في الهجرة السرّية؟ لماذا لا يتمّ التفاوض بجدّيةٍ وندّيةٍ مع الاتحاد الأوروبي، لتسهيل سفر التونسيين إلى أوروبا، والتقليل من نزيف قوارب الموت؟ أم أنّ تونس مجرّد سوق للاتحاد الأوروبّي؟… أسئلة عالقة حارقة كثيرة، يتداولها الشارع التونسي بمزيج من الحسرة والدهشة والصدمة والوجع.. تبقى الإجابة عليها رهينة قيام تحقيق نزيه في مأساة غرق المركب المنكوب، وبلورة إستراتيجيّة شاملة لمعالجة معضلة الهجرة السرّية.
يقول فريد الحاجّي (محافظة تطاوين): "كنّا زهاء مائتين، أغلبنا من الشباب، وأكثرنا من
ويُضيف حسام الكدري (محافظة قابس): "كانت مغامرة صعبة ورحلة طويلة ومضنية، كنّا بين الماء والسماء، كان البحر الهادر أمامنا، وكان الليل الدّامس يلفّنا، عمّنا شعور بالهلع والخوف لا يوصف، غمرتنا المياه فجأة، وتعالى الصراخ والنشيج من كلّ ناحية في المركب، ونجوت من الموت بأعجوبة، إذ أمسكت بأحد الصناديق التي ألقاها أحد الصيّادين، وتمّ إسعافي لاحقاً...أقدمت على "الحَرْقة" لأنّي تبيّنت أنّ الدّراسة لا تؤدّي إلى الظفر بعمل قارّ، ورأيت المحاباة منتشرة، فغلب عليّ اليأس وقرّرت ركوب الهجرة السرية".
أمّا أكرم المحضاوي (محافظة تطاوين)، فدخل البحر مع اثنين من جيرانه، وخرج منه دونهما، ولا يدري مصيرهما، يقول: "ما زلت مأخوذاً بالصدمة، .. أكل البحر أصدقائي لأنّهم ينحدرون من مناطق طرفية، ومعظمهم لم يتعوّدوا السباحة ولا ركوب البحر، وكانوا في تمام ملابسهم. قلبي يعتصر ألماً مِن هَول تلك الليلة المُريعة، رأيت الموت بأمّ عيني، وصيحات الغارقين تُداخلُني في نَومي ويقظتي. لن أهاجر خلسة ثانية، كلّفني ذلك ما كلّفني. سأبقى هنا. سآكل من تراب هذه الأرض حتّى لا تلتاع والدتي".
تُخبر شهادات النّاجين وصيحات المحتجّين بواقع شبابي مأزوم، فالجيل الصّاعد الذي أدمته البطالة، وأضناه الشعور بالإحباط واللاجدوى، أصبح يرى في الهجرة السرية ملاذه الوحيد