عن سلطة إفساد الأوطان المنكوبة

26 نوفمبر 2019
+ الخط -
وطن الناس غيره مراتع السلطة وأهلها، ممن لا وطن لهم سوى بنوك ومصارف المال والأعمال. هكذا منذ زمن بعيد تحولت أوطاننا بفضل أهل السلطة ومواليهم من العبيد المولهين بشخص الزعيم، إلى أوطان طاردة لأهلها المواطنين من الناس العاديين، كما أضحت طاردة لقيم البداهة الإنسانية والأخلاقية، بمعانيها ومبانيها ودلالاتها المتواصلة مع قيم الكرامة والشرف والنزاهة والعدل والتسامح والانفتاح على الآخر، ومد يد العون لكل محتاج ومحروم، ومن افتقر بفعل سياسات السلطة وأهلها، ممن أقصتهم وهمشتهم ورمت بهم على أرصفة الوطن والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ليهيموا على وجوههم أنّى اتجهوا داخل حدود الوطن، من دون أن تشعر بهم، أو تلتفت إليهم طغم السلطة وأهلها وعائلاتها من المتنفذين داخليا، بقدر ما تحكمهم علاقات التبعية، والانحياز لمشاريع قوى نفوذ إقليمية خارجيا، حتى والناس تنتفض وتثور في مواجهة سلطات استبداد سلطوية؛ طلبا للحرية والكرامة ولحقها الطبيعي في أن تسترد حقوقها المواطنية المغيبة، وتلك التي صادرها أهل السلطة، طمعا في الاستحواذ على كل ما يحلو في أعينهم مما ليس لهم، بفضل نزعتهم السلطوية، ورغبتهم الجامحة في استملاك وتملك ما يخص كل آخر، لا يستطيع الدفاع عن ذاته وممتلكاته أمام جوْر سلطة قاهرة، وغادرة لا يستطيع ردعها قانون أو دستور أو قاض نزيه، في ظل دستورٍ قانونيٍّ أضحى، مع الوقت واستسهال خرقه، مجرد حبر على ورق، في إقطاعيات الاستبداد السلطوية المدعومة بقوى نفوذ إقليمية، تستدعي الكهانة والتقية من أجل مصالح دنيوية، تدنسها مشاريع زبائنية خاصة، لا
تمتلك أي خاصية وطنية واضحة.. 
الوطن وطن الناس، مطوّب باسمهم ولهم منذ الأزل وإلى الأبد، ومن الاستحالة تطويبه باسم هذا الشخص السلطوي أو تلك العائلة، أو باسم هذا الحزب أو ذاك. وهو بالتالي ليس "زاروبا بيئيا" تتحكّم فيه سلطة الكهنوت ومافياتها، أو عصابات كهنوت السلطة، على ما يحاول طوائفيون متمذهبون، يقودون ذواتهم نحو نحرها، حين ينحرون روح الانتماء الوطنية، وحين لا يعتبرونها (ذواتهم) خليقة بالانتماء إلى دولةٍ في وطن لهم، إنهم أبناء اليوتوبيا والخرافة بامتياز الماضي المستحضر على هوادج المؤسطرين من شخوصٍ لا يشهد التاريخ لهم، بقدر ما تشهد الأسطرة على وجودٍ لهم ملتبس ومتماه ومغرقٍ باستدعاءاتٍ لشخوص ولتواريخ سابقة لوجودهم، هم أبناء الأسطورة الموهومة أو المزعومة، لا فرق، وذلك لا يمكنه أن يبني دولة الوطن والمواطن، وصيانتهما من عوامل التعرية وعناصر التجزئة، ذلك أن "العقل الكهنوتي" ليس مؤهلا لتلك المهمة التاريخية والواقعية الأكثر التصاقا بجغرافيا وديموغرافيا الوطن.
هكذا ويوما بعد يوم، يكشف منطق الثورات وفلسفتها الحاضّة على التمرّد والانتفاض منسوب القهر الذي عانته وتعانيه الشعوب التي رزحت وترزح تحت حكم سلطات أوليغارشية في أنظمة قمعية بوليسية، ما كان همّها أو يكون، بالمطلق، أن تلتزم القانون والدستور في القيام بواجبات وظائفها التي أنيطت بها؛ إلا أن لعبة السلطة و"حريتها" أو "تحرّرها" من عدالة القضاء ونزاهته، ومن قوانين هيئات الرقابة والمحاسبة البرلمانية، وغيرها من لجانٍ قد تتشكل للتحقق 
من سلوك بعضهم المرتكب من أهل السلطة وعائلاتها، كما وكامل هيئات السلطة المتهمة بالإهمال أو بارتكابات جرمية، كل هذا وضع السلطة "المتحرّرة" من القيود الجزائية، ومن سلطة القيم الأخلاقية، أمام آخر سدود انهيارها أمام تغوّل روحها الإفسادية، وفحش ووحشية سلوكياتها الإجرامية والمبالغة في ارتكاباتها الجرمية، ليس في حق الدولة بوصفها كيانا معنويا من المفترض أن تكون مرآة للوطن، وفي خيانتها (الدولة) تكمن نية أو نيات خيانة الوطن، من دون أن ننسى خيانة الشعب، عبر تجاهل حقوقه في مواطنةٍ طبيعية وحقوق إنسانه في حفظ كرامته وحريته التي كفلتها شرائع وقوانين ومواثيق العدل الطبيعي والعدالة الإنسانية المطبقة فعليا، بعيدا عن سموم وألغام الصراعات الإقليمية والدولية.
السلطة في عالمنا "العاشر" هنا في بلادنا العربية، وما يشابهها من بلدان قريبة أو بعيدة، ومهما كان وضعها الرمزي، ومبرّرات وجودها في الحكم، مثل هذه السلطة لا تختلف عن أي سلطة قمعية وقهرية، تسعى من أجل مصالح القائمين بالسلطة على حساب كل الواقعين تحت هيمنة وتحكمات وأحكام تلك السلطة في انقلاباتها وانفلاتاتها النرجسية والأنانية، من دون قيد أو شرط، ومن دون رادع من أي قيم وطنية أو أخلاقية، ولا حتى دينية يمكن تسييسها أو تبريرها أو تأويلها، وتقويلها بما لم يقله النص الديني أو النصوص الحافة، ولن تأتي على ذكره بالأصل. وعلى الرغم من ذلك، تجد لدى السلطويين السياسيين والكهنوتيين كل حوافز ورغبة القداسة والتقديس لكل ما يتوافق ومصالحهم الشخصية الخاصة أو العامة ذات الطابع الزبائني؛ وهنا تكمن مأساة السلطة وملهاتها وخطورتها على سلام المجتمعات والشعوب والدول وأمنها واستقرارها.
في حضرة الثورات على السلطة بزعاماتها ورعاعها من العبيد، نكتشف أن السلطة، سلطة 
الزعماء من إقطاعيي نهب الدولة، ليست أمينة على وظائفها، بقدر ما هي حريصة على ممتلكاتها التي جرى سلبها ونهبها من الدولة ومواطنيها غير المعترف بمواطنتهم، الأمر الذي يفسّر تفسيرا واقعيا، لا مؤامراتيا، دفاع السلطويين عن عصفور في اليد (السلطة) بدلا من عشرة على الشجرة (الدولة) المنهوبة والمنكوبة على الدوام، دوام الفعل السلطوي واشتغاله وفق آلية ومعايير سلطة القهر والظلم والغلبة واستغباء الناس واستعدائهم عداءً مطلقا في عديد من بلدان بلادنا، لا نسبيا كما في بعض بلاد العالم.
ومع ارتفاع أصوات الناس الموجوعين، اكتشفنا كم هو وجع الوطن كبير بحجمه، وكم هو وجع الدولة كبير في حجم تغييبها، كذلك هو وجع الإنسان أكبر، وجع يختزل الألم المفجوع بحضور السلطة القاهر حد الفجور، وغيبة الدولة/ الأمة بفعل تغييبها من قبل سلطة تمارس حضورها الطاغي، بكل ما يحمله هذا الحضور من ارتكابات فساد وإفساد، وجنايات وجرائم قتل وسرقات، ضحاياها فئات وشرائح مجتمعية عاجزة عن الدفاع عن نفسها، لغياب منطق الدولة في سلوكيات سلطة الرعاية الطائفية، وهي تتغوّل على وقع مصالح لها، في غياب دولة الرعاية الاجتماعية، وتغييب سلطة العدل والقانون ومنطق الدولة العادلة، ومركزية الإنسان ذاته في البؤرة الوحيدة التي تضمن له حياة مستقرة وهانئة فوق أرضه الطبيعية، في إطار دولته الوطنية، وضمان ألا تتحوّل، مع الوقت، على أيدي كهنوت السلطة إلى دولة كهنوتية "مقدّسة"، عناصرها تدعي "القداسة"، والترفع عن مستوى البشر العاديين.
في يوميات ثورة، كما في لبنان والعراق وغيرهما، أتيح لنا أن نتعلم، وأن نتعظ من دروسها العملية، أعلى بكثير من قراءتنا الكتب وما فيها من نظريات، تبقى مجرّدة من مصداقية الفعل الثوري، وأرحب كثيرا من ضيق المساحات التي يحشرنا فيها الوصف أو السرد أو الحكي عن الثورة، ففي يومياتها العملية تجريب لعمل أو أعمال ثورية متنوعة، لا تقف عند حدود الرأي الواحد، أو سلوك وممارسة الدرب الواحد، على طريقة الأعمال الفنية المسماة "ون مان شو". في هذه اليوميات، يكمن غنى التنوع في الرؤى والأحلام والأهداف المشروعة للغالبية المقهورة، الساعية نحو بناء غد أفضل ومستقبل أكثر إشراقا لأجيال المستقبل الواعد، فالفاسدون وهم يتسلقون سلم السلطة لم يفلحوا إلا في إفساد ذواتهم وبناء مصالح لهم شخصية وخاصة وزبائنية، وفي الوقت نفسه، كانوا يفسدون أوطانهم ويغرقونها بأكوام من مسببات التخريب والتدمير، وإعادتها سنوات ضوئية نحو تخلفٍ نكوصي مكرّر، لا يمكن التحرّر منه بغير الثورة؛ ثورة لا يمكن خداعها والالتفاف عليها بإصلاحاتٍ شكلية أو بوعود عرقوبية. وهذا ما تأمله شعوبنا العربية اليوم قبل الغد: إطاحة سلطات الاستبداد القهري ومتلازماتها، كما إطاحة من يقف خلفها من سلطات نفوذ كهنوتية وسياسية نافذة إقليميا ودوليا.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.