عن سلاح الطهر السياسي واستخداماته النجسة (2/2)

16 سبتمبر 2019
+ الخط -
مع اتساع نفوذ الأسرة المباركية ودخول علاء وجمال مبارك إلى دنيا البيزنس، لم يعد النظام الحاكم محتاجاً أصلاً إلى استخدام صورة "الكفن مالوش جيوب"، ولذلك لم يجد حسني مبارك حرجاً في الإشارة ـ خلال حوار له مع كاتب خطبه مكرم محمد أحمد أجراه في بداية التسعينيات ـ إلى النكت التي يسمعها عن ولديه وثرائهما، متفاخراً في الوقت نفسه بمهارتهما وبعمل جمال في البيزنس خارج مصر، ليتطور بعد ذلك خطاب الإعلام المباركي إلى أنه ليس هناك حرج على مساعدة الأولاد لأبيهم، وفي الوقت نفسه حرص إعلام النظام وأمنه على مواصلة ضرب المعارضة بسلاح الطهر السياسي، والتركيز على فكرة التمويل الأجنبي الذي تصاعدت درجته مع الألفية الجديدة، ومع أن النظام كان يتفاخر في صحافته وإعلامه بما يتلقاه من قروض ومعونات ومنح، فقد كان في الوقت نفسه يستخدم مسألة التمويل الذي تحصل عليه المنظمات الحقوقية لتشويه صورة حتى أولئك الذين لا يحصلون على أي تمويل، ولأن العقل الجمعي في مصر متشبع بفكرة الطهر السياسي بطبعتها الوطنية القديمة، فقد وجد النظام الكثير من المعارضين "الأنقياء" الذين يشاركونه في تشويه كل من يحصل على التمويل، حتى وإن كان هذا التمويل يتعرض للرقابة الرسمية وتشرف عليه أجهزة الدولة التي سيسعدها كثيرا أي "انحرافات" إن وجدت.

من حين لآخر كان بعض رجال نظام مبارك في الأمن والإعلام الأمني يستخدمون "الانحرافات" الأخلاقية لضرب المعارضين بالحق أحيانا وبالباطل أحيانا أخرى وبمزيج منهما في أحيان ثالثة، وحين تطورت وسائل التنصت والتسجيل، توسع ذلك الاستخدام الأخلاقي الذي أشار إليه حبيب العادلي في حوار له مع مفيد فوزي حين قال "واللي خايف ما يتكلمش"، ثم أشار إليه بتفصيل أكثر خلال جلسات محاكمته بعد ثورة يناير، ومع بدء استخدام بعض تلك التسريبات في سنين النظام الأخيرة، توسع تأثير ذلك السلاح لدى ملايين المصريين الذين يقبلون على تداول التسجيلات والتشنيعات التي تتحدث عن فساد المعارضين وعلاقاتهم الجنسية وانحرافاتهم المالية، بشكل أكبر أحياناً من إقبالهم على تداول الحديث عن فساد رجال السلطة، لأن من الطبيعي في الوعي الجمعي أن تكون فاسدا في نظام فاسد، لكن ليس من الطبيعي ألا يكون لديك أي أخطاء أو خطايا حين تعارض النظام الفاسد، لأننا لن ننجح في تغيير النظام الفاسد إلا إذا كنا أطهر منه، وهو منطق يتطابق مع المنطق القديم في مقاومة الاحتلال.

لذلك، لم يكن غريباً أن تستخدم أسلحة الطهر السياسي بضراوة لضرب المشاركين في ثورة يناير، خصوصاً عقب مرحلة الصدام بين المجلس العسكري وقوى الثورة، التي بدأت على استحياء عقب استفتاء مارس 2011 وتحالف الإخوان مع المجلس العسكري، ثم تصاعدت بعد واقعة ضباط 8 إبريل التي مثلت تحولاً كبيراً في علاقة الجيش بالثورة، ثم وصل الأمر إلى أقصاه عقب المسيرات المتوجهة إلى وزارة الدفاع واعتصام يوليو 2011، وهنا لم تعد أفكار مثل "طبل وزمر وعلاقات جنسية كاملة" و"في حشيش في الميدان" و"شنطة الدولارات التي تم ضبطها مع أجانب"، تقال على استحياء في البرامج التابعة لقنوات إعلام مبارك، بل أصبحت تظهر بشكل رسمي في الإعلام الذي يسيطر عليه الدولة، والذي أصبح ينقل صورا من كاميرات المراقبة الحكومية لشباب يقومون بلف "سجائر محشية" خلال اعتصام مجلس الوزراء، وأصبح يتحدث عن علامات الغنى التي ظهرت على بعض مشاهير المشاركين في الثورة، ليصور أن ذلك كان الهدف من اشتراكهم في الثورة، وعاد من جديد التأكيد على فكرة العلاقات الجنسية بشكل يشبه ما فعله نظام يوليو مع الشيوعيين والإخوان في البداية، لأن المواطن المصري الذي استهدفته تلك الحملات كان لا زال يؤمن بضرورة الطهر والنقاء لدى المعارض، خصوصا حين أصبح من يحكم رمزا للطهر والنقاء مثل رجال القوات المسلحة البعيدين عن الفساد الأخلاقي بحكم تربيتهم العسكرية، لكن تأثير ذلك السلاح على المعارضين أنفسهم لم يعد بنفس القوة، لأنه صادف جيلاً لم يعد يؤمن بالخطوط الأخلاقية الحمراء لدى جيل الآباء والأجداد، ويعتبر حريته الشخصية أمراً لا يمكن له الاستغناء عنه.


قبل حتى أن يصل الإخوان إلى الحكم رسمياً، وبعد وصولهم، توسعوا هم أيضا في استخدام سلاح الطهر السياسي لتشويه خصومهم، بدءاً من ادعاء أن من شاركوا في مظاهرات محمد محمود ومجلس الوزراء كانوا تحت تأثير المخدرات والبرشام، وأنهم ممولون لعرقلة المسار السياسي الذي يمكن أن يوصل الإخوان إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات، وهو ما تكرر عقب مظاهرات الاتحادية المحتجة على الإعلان الدستوري الذي أصدره محمد مرسي، حين انتشرت الفيديوهات التي يظهر فيها شباب الإخوان ضبط واقيات ذكرية وخمور ولولب في خيام المعتصمين، كتبرير لقيامهم بفض الاعتصام لأنه كان مليئاً بالنجاسة، وهو نفس ما قام به نظام السيسي حين بدأ في ضرب الإخوان على المستوى الشعبي، واستخدم تشنيعة وجود علاقات جنسية في خيام اعتصام رابعة تتخفى تحت غطاء شرعي هو "جهاد النكاح"، وقد كان لتلك التشنيعات مفعول السحر بين الملايين المستعدين دوماً لتقبل نجاسة خصومهم السياسيين، ولا زلت أذكر كيف صعقت حين قام أستاذ لي من كبار المثقفين بنشر تلك التشنيعة نقلا عن صفحات مدعومة من جهات أمنية، لأنه مهما كانت ثقافته رفيعة، يسكن بداخله مواطن مصري صالح يرى معارضيه مدنسين أنجاس، ويحب أن يكون من يؤيدهم أطهاراً شرفاء.

بعد وصول السيسي إلى الحكم، لم تستمر أسطورة القائد الطاهر النقي طويلاً، بعد أن بدأ الإخوان في استخدام سلاح التسريبات ضد نظام السيسي، ليتم التوسع في الحديث عن إدمانه لمخدر الترامادول هو ومساعده الأول عباس كامل، بعد أن أشار عباس إلى ذلك في أحد التسريبات، ثم يتم التوسع في نشر صور السيسي مع الفنانات خلال حفلات القوات المسلحة، مع أن بعض هذه الصور تم التقاطه خلال شغله لمنصب وزير الدفاع، وهي مرحلة كان الإخوان يشيدون فيها بطهره ونقائه وبكائه حتى في صلاة الظهر غير الجهرية، وحين لم يحدث ذلك الأثر المطلوب، بدأت وسائل إعلام الإخوان تتوسع في نشر فكرة افتقاد السيسي إلى النقاء الوطني المطلوب لأن "أمه يهودية"، وهو ما يقدم ـ من وجهة نظر المتبنين لهذه التشنيعة التي لم يثبت عليها دليل ـ تفسيرا ناجعا لكل أفعاله الإجرامية التي يستحيل أن تصدر عن مصري نقي، وظلت تلك الفكرة هي الأكثر استخداماً وتوظيفاً، قبل أن يتغير كل شيئ مع ظهور المقاول والممثل محمد علي وفيديوهاته الأكثر شعبية ورواجاً في مصر.

وجد نظام السيسي صعوبة في البداية في مواجهة فيديوهات محمد علي التي تتحدث عن فساد السيسي ورجال جيشه المالي، لأن النظام كان قد اعتمد منذ البداية على أسلوب التلسين كسلاح سريع التأثير عند الشعب المصري، وركز على فكرة ربط أي فعل سياسي معارض بالمنفعة المادية المباشرة، واعتمد على التسريبات والتسجيلات السرية المخالفة للقانون، وشجع الخوض في الأعراض بشكل كسر به كل الأعراف السائدة في الثقافة السياسية المصرية التي ظلت تحتفظ بطابع تقليدي محافظ إلى حد ما، وهو ما جعل حلفاء الملك فاروق يخجلون قبل ذلك من تلبية رغباته في ضرب الوفد تحت الحزام، وجعل نظام عبد الناصر يلجأ إلى مخبريه لنشر التشنيعات التي تخص عامر ورجاله والتي لا يصح نشرها في الصحف بشكل رسمي، وجعل بعض رجالات السادات الكبار يشعرون أنه تجاوز حين استخدم الشتائم في خطابه الشهير بعد اعتقالات سبتمبر 81، وجعل نظام مبارك في عز بطشه يخجل من وزير داخلية سليط اللسان مثل زكي بدر فيركنه على جنب برغم خدماته الأمنية للنظام، وحين قام الصحفي عبد الله كمال المقرب من جمال مبارك باستخدام سلاح الخوض في الأعراض لضرب أيمن نور، شعر بعض رجال النظام بالضيق، وتم تبرير ما حدث أو التخفيف منه بأنه تم في صحيفة روز اليوسف التي لم يكن أحد يقرؤها، وليس في الصحف الكبيرة.

لكن كل ذلك تغير، لأن نظام السيسي لم يكن يمتلك مشروعاً سياسياً أبعد من فرض الأمر الواقع والبقاء على رأس السلطة، ولذلك استنكف فكرة الاعتماد على حلول سياسية أو خبرات إعلامية، واستسهل كسب الأبناط السياسية بخدمات البلطجية، بل وتوسع في توظيف الشلحلجية الذين لا يمانعون في التشليح والتشليق حسب التعليمات، ولم يدرك نظام السيسي أنه بذلك كله يحدد شكل معارضته، لأنه حين يظهر تسريب ضده، لن يتمكن من إدانة أسلوب التسريبات، وحين يتهم كل معارضيه بدون استثناء بالتكسب ماديا من المعارضة، ودون أن يقدم أدلة قاطعة، لن يطلب غالبية المصريين أدلة قاطعة حين يظهر مقاول مثل محمد علي ليحدثهم عن نهب السيسي للبلد، بل على العكس سيتم تصديق اتهامات النهب والفساد أكثر على النظام، لأنها مرتبطة بقصور ومنشآت وفيلل واحتفاليات رسمية يتذكرها الناس، لكنهم لم يكونوا يعرفون كواليسها، ولذلك يصبح طلب الرشادة السياسية والمعارضة العاقلة عبثاً بعد أن بدأ النظام منذ أول لحظة في شرعنة الجنون والانحطاط.


ما يجعل نظام السيسي مختلفا عن غيره من الأنظمة، أنه لم يترك لنفسه خطوط رجعة سياسية، لأن تشكيله رسمياً تم عقب مذبحة كبرى، وهو ما يجعله يتصرف بعقلية القاتل، حتى وإن لم ينظر إليه كثير من مؤيديه كقاتل، بل كحارس للبلد، ولذلك لا يبدو أنه راغب في تغيير خطابه عقب ما أحدثته فيديوهات محمد علي من رواج، ولذلك قرر الرد على محمد علي عبر أذرعه الإعلامية باستخدام أبيه وأخيه وأمه، والإشارة إلى أنه أبعد ما يكون عن الطهر السياسي، مما لا يتيح له أن يتحدث عن الفساد، وهو سلاح يعلم النظام أنه شديد الفعالية لدى غالبية المصريين، الذين يمكن أن يتركوا الحديث عن نهب الملايين لينشغلوا بالحديث عن شرب محمد علي للمخدرات وتعامله مع ميراث أخيه.

يمكن أن تضع في هذا السياق طريقة تعامل نظام السيسي مع واقعة وفاة أصغر أبناء محمد مرسي، بالسماح لأنصاره بالخوض في عرضه بشكل فج، لأنه يعلم أن الحديث عن الظلم والقهر الذي تعرضت له أسرة محمد مرسي، لن يفله إلا الحديث عن الانحرافات وغياب النقاء والطهر، وبالطبع وجد ذلك الأسلوب في التعامل مع محمد علي ومع نجل مرسي، من يتجاوب معه بشكل واسع وسط أنصار السيسي، وهو ما قد يدفع الضباط الذين فكروا في ذلك الأسلوب وقرروا استخدامه يهنئون أنفسهم على نجاحهم، دون أن يدركوا أن حالة تشريس الجمهور وإصابته بالسعار، ستجعل من المستحيل التعامل معه بشكل طبيعي مستقبلا، لأن من أدمن طعم الانحطاط لن يرضى بديلا عنه.

لذلك لم يتأثر كثير من جمهور السيسي السابق بما قاله محمد علي عن إدارة السيسي الكارثية للبلد، بقدر انشغالهم بتأجيل السيسي لدفن أمه لكي يذهب لاحتفالية افتتاح قناة السويس الجديدة، وهو ما أدركه السيسي، ولذلك اضطر إلى أن يرد على محمد علي بنفسه في مؤتمر تم الإعداد له على عجل، برغم أن رجال النظام نصحوه بألا يقوم بالرد على الفيديوهات، لكنه أصر على إظهار عدم اكتراثه بما قيل في الفيديوهات، بل ورفض تكذيب كل ما قاله محمد علي وأقر بصحة الكثير مما جاء فيه، وأشار إلى أن حجم المشاريع التي يقوم بها الجيش أكبر بكثير، بل ويصل إلى حوالي 175 مليار جنيه في إقامة الطرق، ليرسل رسالة للجميع أنه ليس مهتماً بكل ما يقال عنه.

مشكلة من تعود على امتلاك السلاح، أنه ينظر للعالم من حوله من منظور وحيد: هل هناك من يمتلك سلاحا غيري؟ ومع إن السلاح عامل مهم في حكم وإدارة الدولة، لكنه ليس العامل الوحيد، ولا تستطيع كحاكم أن تستخدم السلاح كدولة بدون أن يكون لديك حد أدنى من معنى عام، حتى وإن كان متوهما، ودون انضباط قانوني، حتى وإن كان هشاً وقابلاً للتلاعب به، لأنك حتى وإن كنت تحكم بمنطق العصابة، فشطارتك كمستبد أن يتعامل معك أقل عدد ممكن من الشعب كزعيم عصابة، لكن لو شرعنت فكرة أنك زعيم عصابة، واعتبرتها خلاصك الأخير لفرض الخوف، فلا تنتظر إلا مصير زعماء العصابات.

متى وكيف؟ هذه مسألة تحكمها الكثير من العوامل، لكن المؤكد أن النظرة للسيسي كحامل للواء الطهر والنقاء قد بدأت في التآكل، وبالتالي أصبحت قدرته على توظيف المعاني اللازمة لستر العورة السياسية أصعب بكثير، لكن تبقى المشكلة الأعمق هي أن التفكير السياسي المصري سيظل مرتبطاً بفكرة الطهر والنقاء، وبعيداً عن الحكم على السياسيين في مختلف المواقع من منطلق الفساد السياسي لا الأخلاقي، وهو ما نراه في مجتمعات تطورت فيها الممارسة السياسية، فأصبحت تطالب بمحاكمة سياسييها حين ترتبط أفعالهم بالمال العام أو بمهامهم الدستورية أو بمخالفاتهم القانونية، وليس بفضائحهم الشخصية، لأن ما يربط الشعب بحكامه وسياسييه ليس طهر أخلاقهم ولا نقاء سرائرهم ولا شهواتهم الجنسية والمالية، بل كفاءتهم الإدارية وبراعتهم التنفيذية والتزامهم بالقانون وأحكامه، وما لم يترسخ ذلك المعنى في الوعي الجمعي عبر الممارسة والتجربة، سيظل سلاح الطهر السياسي قابلاً للاستخدامات النجسة على الدوام.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.