هو يبعد عني ربع ساعة الآن، في سجن "بواسي" الفرنسي، سألتقي "كارلوس" أو"الثعلب الشبح"، كما كان يُلَقَّب طوال عقود من المطاردة، حتى إلقاء القبض عليه عام 1994 من قبل الاستخبارات الفرنسية.
"لن نأخذ معنا سوى القصائد"، قال "جاك فورنييه" وهو يضع حقيبتينا في صندوق السيارة. تبدو "بواسي" المشمسة قريبة من مدن الشرق، شمال غرب باريس، يقضي السجناء وقتهم، معظمهم محكوم بالسجن مدى الحياة، وتنظّم المؤسسات الثقافية الفرنسية لقاءات دورية معهم، أما اليوم، فسوف أحاورهم بدعوة من "جاك"، مدير "بيت الشعر" في مدينة "فيرساي".
كان علينا أن ننتظر ربع ساعة، بعد أن فُتحت البوابة الكبيرة، يحتاج الحارسان أن يتأكدا من هويتينا، أجريا مجموعة من الاتصالات مع إدارة السجن. أخبرني جاك أن اللقاء سيستمرّ ساعة، ولن يُسمح لنا بالبقاء دقيقة بعدها، فمعظم جرائم السجناء تتعلّق بالإرهاب. ثمّة عصفور يلاحق أنثاه بين شجرات السرو المحاذية للجهة الداخلية من السور، هو شهر شباط/ فبراير، طلب الحارسان منّا أن نمر عبر بوابة التفتيش، أخرجتُ ما بحوزتي من أدوات معدنية، لكن البوابة بقيت ترن، وأخيراً اكتشفتُ أن السبب قطعة معدنية شديدة الصغر في أنشوطة حذائي.
اجتزنا ممرات وبوابات أخرى، حتى التقينا بـ"كاترين" التي تعمل مدرِّسة في السجن، حيث يستطيع السجناء أن يُكملوا دراستهم من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى الشهادة الجامعية، قادتْنا إلى بوابة ثانية ليتم تفتيشنا من جديد، في الممر الأخير سألتني: "هل تشعر بالخوف؟". "هي المرة الأولى التي أدخل فيها سجناً، لكنه بالتأكيد أرحم من سجون بشار الأسد"، أجبتها ونحن نعبر ساحة مغلقة بأسلاك شائكة عالية، أخيراً استقبلَنَا عنصرٌ من الشرطة، مررنا بثلاث بوابات حديدية ضخمة، لتبدو ساحة أخرى كبيرة تحوي منصات لكرة السلة، نحن الآن في قلب السجن.
صعدنا بعض الأدراج فظهر أحد السجناء وبيده مجموعة من الأوراق، أخبر كاترين بأنه يود أن يُرسل آخر قصيدة كتبها إلى حبيبته، لكن المشكلة أنه نسي اسمها، ضحك ونظر إلينا ليعرف إن كنا ننظر إليه كسجين، كمختل، أم كمجرم. على الجدار مجموعة من الملصقات عن فعاليات ثقافية في السجن، وقصائد بالفرنسية لشعراء فرنسيين وعرب، كانت كلها معلّقة مقابل قاعة الدروس.
كاترين تُعد القهوة، و"جاك" يُطالع الإعلانات حول طاولة كبيرة في منتصف القاعة، ماذا يدرسون هنا؟ كلّ المواد، إضافة إلى اللغة الفرنسية لمَن لا يُتقنها. لا شيء وراء الشُّباك سوى زرقة العصر. دخل أحدهم وطلب مني التوقيع على نسخة من كتابي، كانت قد وصلت إلى السجن عبر "بيت الشعر"، سألته عن اسمه، "أرجو أن تكتب: إلى مكتبة السجن"، بعد خروجه أخبرني جاك بأنه محكوم بالسجن المؤبد، وبسبب سلوكه الحسن عُيِّن مديراً للمكتبة، لقد وجد عملاً في مكتبة. "ليتني سجين هنا"، أجبت جاك.
سجين آخر درس العلوم الإسلامية في طهران، وكان محارباً في الثمانينيات بجنوب لبنان؛ "علي" أخرج مجموعة أوراق من ملف أسود، وبدأ يدعوني إلى التشيّع، كان جاك يعلن بداية الجلسة، عدد السجناء ستة، لا نستطيع هنا أن نسأل عن أسباب الاعتقال، اقتربت من جاك وسألته عن إشارة أعرف من خلالها "كارلوس"، فأجابني بأنه الرجل الذي سيأتي ويقبِّل يد كاترين.
افتتح جاك الحوار، كان معظمه عن كيفية الخروج من سورية، وعلاقة الإسلاميين بالإسلام، ثمة جذور عقائدية في التاريخ الإسلامي يجب أن تعالَج، كان هذا رأيي، أما علي فقد وضع اللوم كاملاً على الغرب في تخريب الإسلام واختلاق الأنظمة الديكتاتورية، حين رددت عليه: وماذا فعلنا نحن؟ لكزني جاك كي لا أتوغَّل بمواضيع جانبية، قرأت قصيدتين.
ثم سألني مدير المكتبة عن ما أشعر به في المنفى، من دون قصد أجبته بأن المنفى سجن كبير.
لمَسَتْ يدٌ كتفي، التفتُّ فشاهدت وجهاً بديناً، اعتذر على تأخره، فقد كان في قاعة أخرى يحضر إحدى دروس الفلسفة، جلس بمحاذاة كاترين، وبلا مقدمات قال إنه التقى ببشار الأسد منذ سنوات طويلة، "بشار كان يقللي يا عمو، وهلأ صار رئيس جمهورية"، لا يستطيع أحدٌ أن يحدس بما يفكر فيه هذا المجرم، سألني إن كنت لاجئاً سياسياً، لم ينتظر الجواب، بل أتبعه بعبارة مفادها أن سورية انتهت، لكنه ما زال يتذكر ماضيها الذي عايشه مع عشرات ممّن يحكمون باسم النظام اليوم.
يتحدث العربية بطلاقة، ويكفي أن يوجه إلى محاوره نظرة واحدة لكي لا ينسى إلى الأبد ما يملك من دهاء العالم. حاول أن يتذكر اسم مدير فرع "أمن الدولة" في سورية، فأخبرته؛ "علي مملوك"، "نعم نعم، عملنا معاً، ثم أسستُ منظمة سرية داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قبل أن أسافر إلى ليبيا، ثم إلى السودان، حيث اعتُقلت، أنا القائد كارلوس".
"جاك" ينظر إلى ساعته، وعلي يهديني القصيدة رقم 1835، فخلال عشرين عاماً قضاها في السجن كتب ألفي قصيدة مخطِّطاً إياها بيده، كانت القصيدة مرفقة ببطاقة خَطَّ فوقها عبارات مقفّاة بالفرنسية، منها "الحرية حفلة فوضى، حيث يرقص الحكماء والمجانين معاً"، وقَّع باسمه الكامل، "فؤاد علي صالح"، وهو مُتهم بسلسلة من الأعمال الإرهابية، منها تفجير قنبلة في شارع "رين" الباريسي عام 1985، حيث أوقعَ ثلاثة عشر قتيلاً وثلاثمئة جريح.
غادر السجناء باستثناء "كارلوس" و"علي"، كلّ منهما يقف إلى جانب مني، و"جاك" يُطل برأسه خارج القاعة مستعجلاً إياي كي أخرج، ترحَّم كارلوس على "جورج حبش" : "رفيق الثورة والكفاح المسلّح"، كما سمّاه، وامتدح حزب البعث كفكرة "لكن البعثيين أخطأوا في تطبيقها"، قلتُ له إن الأنظمة العربية الديكتاتورية هي من احتَضَنته، وإن أكثر من قتلهم كانوا مدنيين، كما أنه تعاون مع جهات متناقضة في انتماءاتها، فعن أية ثورة يتحدث؟ ردَّ بأنها "الثورة الأمميَّة ضد الإمبريالية". كان علي يستأنف دعوته لي إلى التشيُّع، بينما كارلوس يسألني إن كنت علوياً أم سنياً؟ بعثياً أم شيوعياً؟ نفيت كل ذلك وزدت بأنني من "بني آدم". وأنا أغادر القاعة، طلب عليٌّ عنواني فكتبت عنواناً وهمياً. من حسن الحظ أن الوقت قد نفد، فلم يعد لدينا ما نناقشه. وعند الخروج من البوابة الأخيرة للسجن، بينما كانت الشمس تغرق في الجهة الغربية من المدينة، بحثتُ عن العصفورين، لكنهما كانا قد اختفيا وراء شجرات السرو المتمايلة.
"لن نأخذ معنا سوى القصائد"، قال "جاك فورنييه" وهو يضع حقيبتينا في صندوق السيارة. تبدو "بواسي" المشمسة قريبة من مدن الشرق، شمال غرب باريس، يقضي السجناء وقتهم، معظمهم محكوم بالسجن مدى الحياة، وتنظّم المؤسسات الثقافية الفرنسية لقاءات دورية معهم، أما اليوم، فسوف أحاورهم بدعوة من "جاك"، مدير "بيت الشعر" في مدينة "فيرساي".
كان علينا أن ننتظر ربع ساعة، بعد أن فُتحت البوابة الكبيرة، يحتاج الحارسان أن يتأكدا من هويتينا، أجريا مجموعة من الاتصالات مع إدارة السجن. أخبرني جاك أن اللقاء سيستمرّ ساعة، ولن يُسمح لنا بالبقاء دقيقة بعدها، فمعظم جرائم السجناء تتعلّق بالإرهاب. ثمّة عصفور يلاحق أنثاه بين شجرات السرو المحاذية للجهة الداخلية من السور، هو شهر شباط/ فبراير، طلب الحارسان منّا أن نمر عبر بوابة التفتيش، أخرجتُ ما بحوزتي من أدوات معدنية، لكن البوابة بقيت ترن، وأخيراً اكتشفتُ أن السبب قطعة معدنية شديدة الصغر في أنشوطة حذائي.
اجتزنا ممرات وبوابات أخرى، حتى التقينا بـ"كاترين" التي تعمل مدرِّسة في السجن، حيث يستطيع السجناء أن يُكملوا دراستهم من المرحلة الابتدائية وصولاً إلى الشهادة الجامعية، قادتْنا إلى بوابة ثانية ليتم تفتيشنا من جديد، في الممر الأخير سألتني: "هل تشعر بالخوف؟". "هي المرة الأولى التي أدخل فيها سجناً، لكنه بالتأكيد أرحم من سجون بشار الأسد"، أجبتها ونحن نعبر ساحة مغلقة بأسلاك شائكة عالية، أخيراً استقبلَنَا عنصرٌ من الشرطة، مررنا بثلاث بوابات حديدية ضخمة، لتبدو ساحة أخرى كبيرة تحوي منصات لكرة السلة، نحن الآن في قلب السجن.
صعدنا بعض الأدراج فظهر أحد السجناء وبيده مجموعة من الأوراق، أخبر كاترين بأنه يود أن يُرسل آخر قصيدة كتبها إلى حبيبته، لكن المشكلة أنه نسي اسمها، ضحك ونظر إلينا ليعرف إن كنا ننظر إليه كسجين، كمختل، أم كمجرم. على الجدار مجموعة من الملصقات عن فعاليات ثقافية في السجن، وقصائد بالفرنسية لشعراء فرنسيين وعرب، كانت كلها معلّقة مقابل قاعة الدروس.
كاترين تُعد القهوة، و"جاك" يُطالع الإعلانات حول طاولة كبيرة في منتصف القاعة، ماذا يدرسون هنا؟ كلّ المواد، إضافة إلى اللغة الفرنسية لمَن لا يُتقنها. لا شيء وراء الشُّباك سوى زرقة العصر. دخل أحدهم وطلب مني التوقيع على نسخة من كتابي، كانت قد وصلت إلى السجن عبر "بيت الشعر"، سألته عن اسمه، "أرجو أن تكتب: إلى مكتبة السجن"، بعد خروجه أخبرني جاك بأنه محكوم بالسجن المؤبد، وبسبب سلوكه الحسن عُيِّن مديراً للمكتبة، لقد وجد عملاً في مكتبة. "ليتني سجين هنا"، أجبت جاك.
سجين آخر درس العلوم الإسلامية في طهران، وكان محارباً في الثمانينيات بجنوب لبنان؛ "علي" أخرج مجموعة أوراق من ملف أسود، وبدأ يدعوني إلى التشيّع، كان جاك يعلن بداية الجلسة، عدد السجناء ستة، لا نستطيع هنا أن نسأل عن أسباب الاعتقال، اقتربت من جاك وسألته عن إشارة أعرف من خلالها "كارلوس"، فأجابني بأنه الرجل الذي سيأتي ويقبِّل يد كاترين.
افتتح جاك الحوار، كان معظمه عن كيفية الخروج من سورية، وعلاقة الإسلاميين بالإسلام، ثمة جذور عقائدية في التاريخ الإسلامي يجب أن تعالَج، كان هذا رأيي، أما علي فقد وضع اللوم كاملاً على الغرب في تخريب الإسلام واختلاق الأنظمة الديكتاتورية، حين رددت عليه: وماذا فعلنا نحن؟ لكزني جاك كي لا أتوغَّل بمواضيع جانبية، قرأت قصيدتين.
ثم سألني مدير المكتبة عن ما أشعر به في المنفى، من دون قصد أجبته بأن المنفى سجن كبير.
لمَسَتْ يدٌ كتفي، التفتُّ فشاهدت وجهاً بديناً، اعتذر على تأخره، فقد كان في قاعة أخرى يحضر إحدى دروس الفلسفة، جلس بمحاذاة كاترين، وبلا مقدمات قال إنه التقى ببشار الأسد منذ سنوات طويلة، "بشار كان يقللي يا عمو، وهلأ صار رئيس جمهورية"، لا يستطيع أحدٌ أن يحدس بما يفكر فيه هذا المجرم، سألني إن كنت لاجئاً سياسياً، لم ينتظر الجواب، بل أتبعه بعبارة مفادها أن سورية انتهت، لكنه ما زال يتذكر ماضيها الذي عايشه مع عشرات ممّن يحكمون باسم النظام اليوم.
يتحدث العربية بطلاقة، ويكفي أن يوجه إلى محاوره نظرة واحدة لكي لا ينسى إلى الأبد ما يملك من دهاء العالم. حاول أن يتذكر اسم مدير فرع "أمن الدولة" في سورية، فأخبرته؛ "علي مملوك"، "نعم نعم، عملنا معاً، ثم أسستُ منظمة سرية داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قبل أن أسافر إلى ليبيا، ثم إلى السودان، حيث اعتُقلت، أنا القائد كارلوس".
"جاك" ينظر إلى ساعته، وعلي يهديني القصيدة رقم 1835، فخلال عشرين عاماً قضاها في السجن كتب ألفي قصيدة مخطِّطاً إياها بيده، كانت القصيدة مرفقة ببطاقة خَطَّ فوقها عبارات مقفّاة بالفرنسية، منها "الحرية حفلة فوضى، حيث يرقص الحكماء والمجانين معاً"، وقَّع باسمه الكامل، "فؤاد علي صالح"، وهو مُتهم بسلسلة من الأعمال الإرهابية، منها تفجير قنبلة في شارع "رين" الباريسي عام 1985، حيث أوقعَ ثلاثة عشر قتيلاً وثلاثمئة جريح.
غادر السجناء باستثناء "كارلوس" و"علي"، كلّ منهما يقف إلى جانب مني، و"جاك" يُطل برأسه خارج القاعة مستعجلاً إياي كي أخرج، ترحَّم كارلوس على "جورج حبش" : "رفيق الثورة والكفاح المسلّح"، كما سمّاه، وامتدح حزب البعث كفكرة "لكن البعثيين أخطأوا في تطبيقها"، قلتُ له إن الأنظمة العربية الديكتاتورية هي من احتَضَنته، وإن أكثر من قتلهم كانوا مدنيين، كما أنه تعاون مع جهات متناقضة في انتماءاتها، فعن أية ثورة يتحدث؟ ردَّ بأنها "الثورة الأمميَّة ضد الإمبريالية". كان علي يستأنف دعوته لي إلى التشيُّع، بينما كارلوس يسألني إن كنت علوياً أم سنياً؟ بعثياً أم شيوعياً؟ نفيت كل ذلك وزدت بأنني من "بني آدم". وأنا أغادر القاعة، طلب عليٌّ عنواني فكتبت عنواناً وهمياً. من حسن الحظ أن الوقت قد نفد، فلم يعد لدينا ما نناقشه. وعند الخروج من البوابة الأخيرة للسجن، بينما كانت الشمس تغرق في الجهة الغربية من المدينة، بحثتُ عن العصفورين، لكنهما كانا قد اختفيا وراء شجرات السرو المتمايلة.