عن خيبة الفقراء وزحف الصين وهال الذي لن نراه

21 أكتوبر 2018
+ الخط -

القصة الحزينة نفسها تتكرر دائماً وأبداً: ينتخب الفقراء قادة كذابين، يتلاعبون بالشعارات الطنانة أمل أن يجعلوا حياتهم أفضل، يصل القادة الكذابون إلى مواقع السلطة فلا يفعلون شيئاً سوى الاهتمام بمصالحهم وجعل حياة من انتخبوهم أسوأ، تصبح حياة الفقراء أسوأ، ويقعون بعد فترة فريسة لقادة كذابين جدد بشعارات طنانة جديدة. 

في تقرير لها بمجلة (ماذر جونز) الأميركية، تتحدث الكاتبة بيكا أندروز عن أحد تجليات هذه القصة الآن في (ترامب لاند) أو الولايات الأميركية التي انتخبت دونالد ترامب بالتحديد، لعله ينتقم لها من الساسة الأميركيين التقليديين الذين تجاهلوا أوضاع سكان هذه الولايات عبر السنين. لكن ترامب ومنذ انتخابه، لم يفعل في الحقيقة شيئاً لحل مشكلة خطيرة وعاجلة تهدد حياة وصحة الملايين من مؤيديه، وهي مشكلة المستشفيات الصغيرة في المناطق الريفية، التي يتواصل إغلاقها بسبب ضعف التمويل، إذ تم إغلاق أكثر من 80 مستشفى في جميع أنحاء أميركا خلال السنوات الثماني الماضية، وفقاً لبرنامج بحوث الصحة الريفية التابع لجامعة نورث كارولينا ـ تشابل هيل، فيما لا يزال أكثر من ثلث المستشفيات العاملة في المناطق الريفية معرضاً لخطر الإغلاق، بينما يعمل 41 في المئة من المستشفيات الريفية في منطقة الخطر الحمراء التي تجعل أوضاعها سيئة. 

تتحدث الكاتبة عما جرى في ولايتها تينيسي التي شهدت إغلاق ثمانية مستشفيات في السنوات الماضية، أحدها أغلق في أكتوبر الماضي لفشله في جمع تبرعات قيمتها مئة ألف دولار، إذ جمع مبلغ خمسة آلاف ونصف فقط، ليعلن المستشفى غلق أبوابه بعدما ظل العديد من العاملين فيه دون رواتب لأسابيع. وبالطبع لم يتدخل أحد من رجال الأعمال الذين أنفقوا الملايين لدعم ترامب، لكي يقف إلى جوار المرضى والفقراء الذين صوتوا من أجله، فقد انتهت الحاجة إليهم الآن، وهو ما تكرر في عدة ولايات أصبح عدد المستشفيات فيها قليلاً لدرجة أن أقرب مستشفى فيها يقع في نطاق 25 كيلومتراً، وهو ما يؤدي إلى نتائج كارثية متفاقمة، وخاصة أن كثيراً من المحتاجين إلى الخدمة الطبية هم من المسنين الذين لا يستطيعون السَوق، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الموت في المناطق الريفية بعد التعرض لحوادث السيارات وتعاطي جرعات زائدة من المخدرات، بزيادة قدرها خمسون في المئة عن المناطق الحضرية، لأسباب من أهمها بعد المسافة عن المستشفيات وضعف مستوى الرعاية في غرف الطوارئ. 

تقدم الكاتبة تفاصيل محزنة عن الأحوال الصحية المتدهورة لفقراء الولايات السبع عشرة التي لم تنضم إلى برنامج التأمين الصحي، الذي أعلن خلال فترة حكم أوباما وحمل اسم (أوباما كير)، والذي واجه حملات تشويه ضارية من الجمهوريين، وكان هدفاً مباشراً لهجوم ترامب منذ أن بدأت حملته الانتخابية، وهو ما يجعل هذه الولايات صاحبة معدل أعلى من المرضى غير المؤمن عليهم، الذين لا تستطيع المستشفيات تقديم رعاية لائقة لهم، ليزيد احتمال إغلاق المستشفيات في هذه المناطق بنسبة ستة أضعاف عن غيرها من الولايات، التي انتشر فيها نظام ميديكيد، لا لأنه نظام عبقري بل لأنه أفضل من لا شيء. وما يزيد الأمر صعوبة أن كل مستشفى يتم إغلاقه يؤثر بنسبة 25 في المئة على اقتصاد المنطقة المحيطة به، ويؤدي إلى تدهور في أحوال البطالة والأوضاع الاجتماعية لسكان المنطقة. 

ومع أن معظم عمليات إغلاق المستشفيات حدثت ويتوالى حدوثها في الأماكن التي شهدت إقبالاً غير مسبوق من الناخبين على التصويت لصالح ترامب، إلا أن إدارته لم تفعل شيئاً لهؤلاء الناخبين، ولو حتى بتأخير مدة إغلاق المستشفيات، وحين قام نائب جمهوري بتقديم مشروع قانون لتوفير الحماية للمستشفيات الريفية، ظل القانون راقداً في أدراج مجلس النواب منذ عام 2015، برغم إعادة تقديمه في العام الماضي، بل تم استخدام أوضاع المستشفيات كأداة للصراع السياسي بين المتنافسين، ليصبح حال المستشفيات أسوأ من ذي قبل، وهو ما يدفع ثمنه المرضى من كل الطبقات والميول السياسية، بمن فيهم والدا الكاتبة اللذان يعيشان في منطقة أغلقت فيها أربعة مراكز طبية رئيسية منذ عام 2014، ليزداد الضغط على كل المستشفيات الباقية الموجودة في غرب ولاية تنيسي، التي أصبح بقاء المستشفيات مفتوحة فيها أمراً يدعو للفرحة، بغض النظر عن جودة الخدمة التي تقدمها، فيما يتواصل نصب ترامب على ناخبيه، وإقناعهم بأنه جاء إلى السلطة ليجعل أميركا دولة عظمى مجدداً، والمأساة أنهم ما زالوا يصدقونه. 


ـ نبقى مع المستشفيات ولكن في سياق مختلف تماماً، فقد تحدثت الصحف مؤخراً عن أحدث اختراع مبهر في المجال الطبي، هو "مانيكان" أو بمعنى أدق روبوت اسمه هال، تم تصميمه لكي يتدرب عليه الأطباء والممرضون في بدايات التحاقهم بالعمل الطبي، الروبوت العجيب قادر على ذرف الدموع ونزف الدم والصراخ والتأوه كأي مريض حقيقي. هال الذي تم تصميمه وتطويره في شركة جومارد، يمكن التحكم به عن بعد ليدخل في نوبة قلبية أو صدمة حساسية، كما تم تصميمه بحيث تتقلص حدقتا عينيه إذا تم تصويب الضوء نحوهما، كما يمكن وصله بالأجهزة الطبية في المستشفيات، بل يمكن للمتدربين استخدام الصدمات الكهربائية لإنعاش قلبه. وقد حرص مصممو هال على الاهتمام بأبسط تفاصيل شكله ومظهره وتفاعلاته، ليبدو حقيقياً إلى أقصى درجة، حتى إن بعض من قاموا بتجريبه تفاعلوا معه بشكل حقيقي خلال "محاولة إنقاذه"، خصوصاً بعدما تم الاشتغال على جعل تنفسه واقعياً بفضل تصميم رئة ميكانيكية، وتثبيت عبوة في ساقه تسمح له بأن يخرج ثاني أكسيد الكربون مع الزفير، أما الدموع الزائفة التي يصدرها فيتم توليدها عبر نظام هيدروليكي، فيما تقوم محركات مثبتة تحت جلد وجهه بجعله يبدو غاضباً أو خائفاً بشكل تفاعلي مع ما يتم فعله بجسده. 

حين قرأت تفاصيل الاختراع فرحت به للغاية، لأنه يمكن أن يشكل إضافة مدهشة لتدريب طلبة الطب والأطباء والممرضين، حديثي التخرج في جامعاتنا ومستشفياتنا المنكوبة بنقص التدريب وقلة الكفاءة. لكن فرحتي زالت حين عرفت أن ثمن (هال) أو الهال الواحد بمعنى أصح يصل إلى 48 ألف دولار، وهو ما يجعل وجوده مستحيلاً في المستشفيات التي تحتاج إليه لدينا، لأننا ما زلنا نفضل إهدار دولارات البلاد على صفقات السلاح، ما دام كبار البلد قادرين على العلاج في مستشفيات فخمة، ليبقى التدرب على أجساد المرضى الفقراء هو الوسيلة الوحيدة المتاحة للتدريب.   

ـ أثبتت دراسة حديثة أن الأوعية البلاستيكية التي يضع المسافرون فيها أمتعتهم الشخصية خلال مرورهم في نقاط التفتيش في مطارات العالم، تكون في الغالب ملوثة بفيروسات الأنفلونزا، وطبقاً لما نشرته صحيفة الواشنطن بوست، فإن نصف هذه الأوعية التي قام العلماء بفحصها، تحتوي على فيروسات تسبب أمراضاً للجهاز التنفسي، يمكن أن تنتقل من شخص لآخر باللمس، وهو ما قد يؤدي إلى تسبب هذه الأوعية الملوثة بنشر الميكروبات القاتلة بصورة سريعة عبر العالم، وهو ما قد تزداد خطورته في حالة ظهور تهديد لأي وباء قادم، لذا لزم التنويه والتطهير. 

ـ في كتاب صدر مؤخراً بعنوان (ميدان الدم: العنف في الكونغرس والطريق إلى الحرب الأهلية)، قامت المؤرخة جوان ب. فريمان بعرض أشهر حوادث العنف التي وقعت بين أعضاء المجالس التشريعية من مختلف الأحزاب والولايات الأميركية قبل قيام الحرب الأهلية مباشرة، وهي حوادث تنوعت ما بين قيام أعضاء الحزب الديمقراطي برفض التصويت على مشروع قانون للإنفاق العسكري وهم في حالة سكر، وقيام ثلاثة نواب من أحزاب مختلفة بالاشتباك بالأيدي خلال وجودهم في أحد المسارح بعدما سكر الثلاثة، وقيام نواب الأحزاب الرئيسية الثلاثة وقتها بالاشتباك بعد تكرار الضرب على الكراسي والطاولات، وقيام نائب جمهوري بتمزيق باروكة نائب ديمقراطي، قيام نائب ديمقراطي بخربشة نائب ديمقراطي آخر اختلف معه في الرأي، قيام نائب ديمقراطي بلكم نائب جمهوري، قيام نائب ديمقراطي بالإمساك بنائب جمهوري من حنجرته، قيام نائب جمهوري بالإمساك بنائب ديمقراطي من حنجرته، قيام نائب ديمقراطي بضرب نائب جمهوري بالعصا 12 مرة، قيام نائب بتهديد زميله بضربه بالنار لأنه قام بتهديد مدير بنك كان سيشهد أمام مجلس الشيوخ، قيام نائب بإشهار مسدسه البيستول على نائب آخر تحدى زميله أن يقوم بسحب الزناد وإطلاق النار، قيام المتحدث باسم مجلس نواب أركنساس بطعن نائب جمهوري لأنه أهانه، وبرغم قيامه بقتل زميله وطرده من المجلس، تمت محاكمته بتهمة القتل وتبرئته وأعيد انتخابه. وبالطبع لم تعد تتكرر مثل هذه الحوادث في العقود الأخيرة، لأن كثيراً من النواب المنتخبين اكتشفوا أن من الأفضل لهم أن يركزوا طاقتهم في جني المال وتكوين العلاقات الطويلة المدى المستمرة المصالح، بدلاً من الدخول في معارك لا طائل من ورائها. 

ـ دون كثير من الضجيج، تواصل الصين زحفها الاستثماري على القارة الأفريقية، الذي ما زالت تصب فيه بلايين الدولارات في مشروعات استثمارية تركز على مجال البنية التحتية والتعليم والتعدين، فضلاً عن إنشاء شركات استثمارية وصلت إلى عشرة آلاف شركة حتى الآن، فيما تكتفي الدول الغربية بشن هجمات إعلامية على التحركات الصينية، التي ويا للعجب تصفها في وسائل إعلامها بأنها تحركات استعمارية تهدف لنهب ثروات أفريقيا وإدخالها في أزمة ديون، وهو قول مهما كانت دقة تفاصيله لو مُنحت أفريقيا الفرصة للتعليق عليه، لما وجدت رداً مناسباً سوى الشخر الإسكندراني، الذي ينتمي إلى تراثها الشعبي على أي حال. لكن حكومة بكين ليست مشغولة بأي رد من أي نوع، بل تواصل تنفيذ تعهداتها التي بدأت قبل عقد من الزمان بالاستثمار في أفريقيا. أذكر أنني كنت قد ناقشت هذا الموضوع المهم مع الدكتور عز الدين شكري في أول حلقة من برنامج "عصير الكتب" قبل نحو تسع سنوات، وكنا وقتها نناقش كتاباً مهماً بعنوان (نهوض أفريقيا)، أي إن ما تفعله الصين لم يكن سراً يخفى على أي حد، ومع ذلك فقد أنفقت الولايات المتحدة 14 بليوناً فقط على دعم أفريقيا بمشروعات استثمارية، فيما وصل حجم استثمارات الصين في أفريقيا خلال العقد الماضي إلى 175 بليون دولار. 


صحيفة غلوبال تايمز الصينية، خصصت إحدى افتتاحياتها لمناقشة الاتهامات التي توجهها وسائل الإعلام الغربية للتحركات الصينية في أفريقيا، وقالت إن الولايات المتحدة وأوروبا استمرا في معاملة الدول الأفريقية بوصفها مستعمرات ثانوية، فيما تحرص الصين على التعامل معها بوصفها لاعباً رئيسياً في الاقتصاد العالمي، وأن هذه الدول التي لا ترغب في أن تتعرض للاستعباد رحبت بالمنافع التجارية المتبادلة مع الصين، التي أدركت أن القارة الأفريقية تشكل فرصة جديدة للاقتصاد العالمي. ولذلك يواصل القادة الأفريقيون توقيع الاتفاقيات التجارية مع الصين، وهو ما لم يكونوا سيفعلونه لو لم تحصل بلادهم على منافع من ورائه، وبغض النظر عن أن كثيراً من الدول الأفريقية التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الصين، محكومة بأنظمة ديكتاتورية صريحة، أو أنظمة ديكتاتورية تتخفى خلف قشرة ديمقراطية هزلية، وأن معيار توقيع الاتفاقيات الاقتصادية فيها ليس منفعة الشعوب، بل منفعة الطبقات الحاكمة والعاكمة، ذلك لا ينفي صحة ما ختمت به الصحيفة الصينية افتتاحيتها حين قالت: "في أفريقيا وفي غيرها، يبدو الغرب كخاسر يخفي مشاكله بلعن تقدم الآخرين".

...

أرقام للتأمل: 

ـ طبقاً لاستطلاع نشرته صحيفة الواشنطن بوست، قام واحد من بين كل أربعة أميركيين بحذف تطبيق "فايسبوك" عن هاتفه المحمول، فيما قام 54 في المئة من مستخدمي فايسبوك الأميركيين بتشديد أوضاع الخصوصية في حساباتهم الشخصية، بعد الحملات الأخيرة التي تعرض لها فايسبوك بسبب دوره في تعزيز الاختراق الروسي للانتخابات الأميركية. 

ـ سبعة في المئة هي نسبة البالغين البريطانيين الذين يعتقدون أن الاختلاط بالمسيحيين أفضل وأكثر متعة من الاختلاط بالملحدين. سبعة في المئة هي أيضاً نسبة البريطانيين الذين قالوا إنهم سيكونون حذرين حين يتركون أطفالهم في رعاية مسيحيين. 

ـ في دراسة أجريت عام 2004 بين الأميركيات اللواتي بلغن سن الثامنة عشرة، وجدت الدراسة أن اثنين في المئة فقط هي نسبة اللواتي يرغبن في التحول إلى أمهات متفرغات دون أي وظائف أخرى حين يصلن سن الثلاثين، وبعد مرور سنوات طويلة تم تفقد اللواتي شاركن في الدراسة، ليتضح أن نسبة من أصبحن منهن أمهات متفرغات حين بلغن سن الثلاثين وصلت إلى 15 في المئة.    

ـ 61 في المئة هي نسبة الأميركيين الذين يعتقدون أن الفرد يمكن أن يكون ضحية للعنف بشكل أكبر في أوروبا أكثر من الولايات المتحدة. 

ـ نسبة المال الأسود الذي يتم إنفاقه من الخارج على الانتخابات داخل أميركا، تم تقديرها بـ 54 في المئة من مجموع ما يتم إنفاقه على الانتخابات بشكل عام. 

ـ ارتفعت نسبة الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين سن 25 إلى 34، الذين يموتون بمرض التليف الكبدي كل عام بنسبة 58 في المئة في الفترة من 2008 إلى 2016. 

ـ على عكس المتوقع، لم ترتفع نسبة الذين توقفوا عن التدخين بشكل كامل، بعد مواظبتهم على السجائر الإلكترونية، فقد بلغت النسبة واحداً من بين كل عشرة فقط. 

ـ نسبة العاملين الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 24 و35 سنة، والذين يخططون لترك أعمالهم خلال عامين بلغت 43 في المئة. 

ـ واحد من بين كل خمسة أميركيين ما بين سن الثامنة عشرة إلى سن الرابعة والعشرين لم يسبق له أن قام بتقبيل أحد، قبلة عاطفية أو جنسية بالطبع، لا أدري كم تكون النسبة لو أجريت لدينا في ظل الواقع المحزن الذي نعيشه على المستوى الاجتماعي والاقتصادي؟

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.