إنجاز الفُكاهة والسخرية في صناعة سينمائية غير سهل البتّة. هذان نمطان يحتاجان إلى مخيّلة أكبر وأعمق، وإلى حسّ ذاتي يملكه صانع العمل في حياته اليومية، فيتمكّن من ترجمته البصرية بانفعالٍ يتلاءم ورغبته في قولٍ أو بوحٍ أو تعليق. الدليل على ذلك ندرة الأفلام اللبنانية المرتكزة على حيوية نصّ وجمالية سرد ومتانة اشتغال فني ـ تقني، في قالب فُكاهي ساخر.
الشابان رمزي الخوري ومارك سلامة يمتلكان تلك الحساسية المثيرة للانتباه والمتعة والمتابعة. لديهما إحساس عالٍ بالفُكاهة الساخرة، أو بالسخرية المغلّفة بفُكاهة سوداء رغم قدرتها على الإضحاك. طالبا "قسم السينما والتلفزيون" في "كلية الفنون الجميلة والعمارة" في "الجامعة اللبنانية" متمكّنان من إثارة ضحك لن يكون مجانيًا، والتنبيه إلى واقع ومصائب من دون خطابية أو وعظ أو تلقين، بل بسلاسة بصرية تغلب عليها لغة الصورة، مع حوارات موضوعة في سياقها الطبيعي.
يغرف الخوري وسلامة من أحوالٍ راهنة ما يجعل فيلميهما "هابّي أندينغ" و"طَعْمي السمكات" (شهادتا الـ"ماستر" 1 و2) مرايا عيشٍ وانشغالات ومواجع ووقائع مترهّلة في بلدٍ واجتماع ممزّقين وتائهين. ومع أن الأول منصبٌّ أكثر على حكاية فردية ذاتية بحتة، تُحاصَر أحداثها ومساراتها في إطار ضيّق وشخصي؛ فإن الثاني "ينفلش" أكثر على وضع لبناني يتطلّب حدًّا كبيرًا وعميقًا من السخرية المريرة لشدّة عبثيته واهترائه وتوهانه. وإذْ يمتلك الأول شفافية سردٍ يغوص في يوميات شابٍ مُقيم مع جدّته ومراقب لحياته وانفعالاته وعلاقاته بذاته وبالآخرين، في مدينة محصورة بين منزله والصيدلية التي يعمل فيها وبعض الجيران والأمكنة التي تبدو شخصية وحميمة له؛ فإن الثاني ينطلق من مساحة مكانية صغيرة كي يلتقط خراب اجتماع وعلاقات وسلطة ونفوذ وإعلام، منتقدًا إياه بشدّة، لكن بأسلوب فُكاهي ساخر ومرير وجميل.
السلاسة الواضحة في "هابي أندينغ" متمثّلة بإيقاع متماسك في 15 دقيقة لن تُثير مللاً أو نفورًا، لقدرتها على جذب المُشاهد وإثارة حماسته وضحكه ومتعته إزاء حكاية شابٍ يروي ـ على خلفية موسيقية غير مزعجة وغير نافرة وغير مُضجرة ـ دقائق عيشه وانفعالاته ورغباته وعلاقاته. وهو بهذا يعتمد على أداء (شادي الخوري) يُلبّي المناخ العام لتلك الحكاية وكيفية سردها، وعلى تصوير (داني شديد) يُحقِّق جوانب كثيرة من خيارات المخرج على مستوى الإضاءة والألوان والكادرات، التي تُلبّي رغبته في تأكيد روتين يومي في عالم منغلق يضيق على الشاب وينفتح، في الوقت نفسه، على ارتباكات محيط.
أما التعاون بين مارك سلامة والممثل عصام بوخالد فيُنتج فيلمًا (10 دقائق) مفتوحًا على أقصى سخرية ممكنة، وعلى أجمل فُكاهة تتضمّن انتقادًا مبطّنًا لخراب لبناني يبدو أنه غير قابل لإصلاح أو تبديل. فالحارس الليلي (بوخالد) في مصنع كبير مُصاب بنوع من النسيان، فيكتب على قصاصات صغيرة ما يُفترض به أن يفعله يوميًا. يتابع على شاشة التلفزيون حادثة تهزّ البلد: اختفاء ابنة صناعي كبير يُهدِّد "خاطفيها" بعقاب مرير. اختزال الحبكة صعبٌ، فجمالية "طَعْمي السمكات" حاضرةٌ في سياقه ومناخه والأداء الاحترافي لممثل يُسخِّر معارفه وأدواته في خدمة شخصية مرتبكة ومضطربة لكنها غير مبتذلة ومتصنّعة، كعادة أفلام استهلاكية لبنانية ركيكة، تُسخِّف المشهد والحالة والشكل البشريّ.
الضجّة التي يُثيرها اختفاء الصبيّة تؤدّي إلى تعاملٍ متداول في بلدٍ مُقيم في انهياراته القاتلة. إعلام يُضخّم من دون التأكّد من المعطيات، وأناس يتباهون بأقوال غير ملائمة للحدث، وادّعاءات وسطحية وفوضى وعنف وتهديد. وفي الوقت نفسه، يعمل الحارس الليلي على اتقان مهمته والتنبّه إلى العالم الخارجي، قبل إدراكه أن الشابة "المخطوفة" ستكون ابنة صاحب المصنع، وأن "اختفاءها" نابعٌ من رغبتها في تمضية وقت حميم مع صديقها في الباحة الخلفية للمصنع.
وإذْ يعتمد "هابّي أندينغ" على وضوح الألوان وشفافيتها وانسجامها مع الحالة النفسية للشخصية الأساسية (شادي الخوري)، فإن الليل في "طعْمي السمكات" محتاج إلى إضاءة مختلفة، يجتهد المُصوِّر طوني حاتم في منحها الطاقة الفنية والدرامية المطلوبة، في مزيج سينمائي جميل بين مرارة الواقع ومتطلبات الفُكاهة والسخرية المريرة.
فيلمان لبنانيان يكشفان ما هو أعمق من الموهبة، وما هو أجمل من الحماسة. يكشفان التزامًا ثقافيًا وجماليًا وفنيًا وإنسانيًا بالسينما ومفرداتها ومتطلّباتها وأدواتها.