عن المركز العربي ومؤسسات البحث العربية

30 يونيو 2018
+ الخط -
نشرت وكالة الصحافة الفرنسية تقريراً روّج شائعاتٍ مغلوطة ومشوهة كثيرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومديره العام عزمي بشارة، وتبعت ذلك حملة مشبوهة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد المركز ومديره، ضمن حساباتٍ مزيفةٍ أو تابعةٍ لأشخاصٍ أقل ما يقال فيهم إن لهم أجندة خاصة ضد الديمقراطية واستقرارها في العالم العربي. وليس هذا المقال في وارد الرد على هذه الاتهامات، فقد أصدر المركز العربي بياناً فند فيه هذه الادعاءات، وأظهر تحيز الوكالة في تقريرها الذي ربما يهدف إلى تحقيق مآرب أخرى. وإنما مقصد هذه السطور أن تفتح نقاشا بشأن مستقبل مؤسسات البحث العربي بشكل عام، والإضاءة خصوصا على تجربة النجاح التي حققها المركز العربي في سنوات قصيرة، بهدف الاستفادة منها، والنظر إلى حال المعرفة في العالم العربي بشكل عام.
يجب البدء بالرؤية الإجمالية لتوازنات المعرفة اليوم، ولا شيء يمكن له أن يدل على اختلال التوازنات اليوم بين الحضارات واللغات المختلفة سوى الإنترنت، بوصفه وعاء المعرفة البشرية اليوم. يظهر تقرير (W3Techs)، والتي تراقب محتوى الإنترنت عبر العالم، أن اللغة 
الإنكليزية تسيطر على 52.3% من هذا المحتوى. وهذا متوقع بسبب هيمنة الإنكليزية على محتوى العلوم والمعرفة في العالم. تأتي اللغة الروسية ثانية، وهي مرتبة مفاجئة، بنسبة تبلغ 6.3%، ثم الألمانية بنسبة 6.2%، ما يؤشّر إلى مدى قوة متحدثي هذه اللغة على الرغم من قلة عددهم، مقارنة مع الفرنسية والإسبانية، في إنتاج المعرفة، ثم تأتي الإسبانية 5.1%، ثم اليابانية 4.2%، ثم الفرنسية 4.1%، ما شكل مفاجأةً، نظرا إلى زيادة عدد مستخدمي الفرنسية في أوروبا وأفريقيا. بعد ذلك، تأتي اللغات البرتغالية فالإيطالية فالفارسية فالصينية فالبولندية فالهولندية فالتركية فالتشيكية فالكورية، ثم تأتي اللغة العربية بنسبة أقل من 0.6%، ما يعني أن كل متحدثي اللغة العربية (على امتداد الوطن العربي)، على كثرة عددهم مقارنة بمتحدثي اللغات الفارسية والتشيكية والبولندية والكورية، ينتجون أقل من 0.6% من محتوى الإنترنت باللغة العربية. ولا يتعلق هذا النقاش بمستوى المحتوى وقيمته، فتكفي المقارنة بين محتويي ويكيبيديا العربية وويكبيديا الإنكليزية لمعرفة الفارق الشاسع في مستوى المعرفة وقيمتها، ما يدل على انهيار كامل لمستوى المعرفة العربية، ويعطي مؤشراً خطيراً على مستوى إنتاج الجامعات العربية ومراكز البحث والتفكير العربية.
انطلاقاً من هذه النقطة على بداهتها، تأسس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومقرّه الدوحة، ولديه طموح كبير في إثراء المعرفة المكتوبة باللغة العربية، وهو طموح لا يستطيع مركزٌ وحده، أو دولة عربية واحدة بأكملها، أن تغير من طبيعة وحقائق الأرقام التي قدمتها. ولكن المركز استطاع، في أقل من ثماني سنوات، أن يغير من حقيقة إنتاج المعرفة بالعربية، وأن يسهم بذلك إسهاماً نوعياً نادراً، فقد أصدر خمس دوريات محكمة، تغطي الشؤون السياسية (سياسات عربية)، والثقافية (تمدّن)، والعلوم الإنسانية والاجتماعية (عمران)، والعلوم التاريخية (أسطور)، واستشراف المستقبل (استشراف)، وكلها تتبع الترميز الدولي في التحكيم، وأصبحت مقصداً لكل الأساتذة الجامعيين، بهدف نشر بحوثهم، فيها كون تصنيف هذه المجلات اعتمدها، في معظم الجامعات العربية، مجلات محكمة.
كما أصدر المركز مئات الكتب الأكاديمية، خصوصا التي غطت أعظم انفجار حدث في المنطقة العربية في القرن الحادي والعشرين، وهي الثورات العربية من تونس إلى مصر إلى سورية إلى اليمن إلى ليبيا. كما ترجم مئات الكتب المرجعية من عدة لغات إلى العربية. ولذلك يمكن القول إن إسهام المركز في إنتاج المعرفة أصبح رائداً على المستوى العربي، وحتى الذين يهاجمون المركز، لأسباب سياسية وغيرها، لا ينكرون حجم الإنتاج العلمي والمعرفي الذي قدّمه المركز.
فضلاً عن ذلك، كان إسهام المركز كبيرا في إيجاد شبكة تواصل بين الباحثين العرب، قل نظيرها، نظرا لدورية المؤتمرات التي ينظمها المركز، والتي لم تستطع مؤسسة عربية أخرى أن تنظم هذا العدد من المؤتمرات العلمية والأكاديمية في هذا الوقت القصير، ما ساعد، بشكل استثنائي، في تقريب الباحثين العرب من بعضهم، وتبادل اهتماماتهم، والأهم بناء تلك الشبكة الضائعة التي كانت الأحزاب العابرة للحدود العربية تنادي بها باسم القومية العربية، لكنها فشلت في تقريب الباحثين والمؤمنين العرب بالديمقراطية من بعضهم بعضا. وقد ساهمت أربع عوامل رئيسية في نجاح المركز خلال هذه الفترة القصيرة:
أولاً، الرؤية: كان وضوح الهدف والرؤية بالنسبة للمركز عاملاً حاسماً في نجاحه في هذه الفترة القصيرة، فإدارة المركز تعرف ماذا تريد، وتعرف التحدّيات التي تواجهها، فقد وضعت مسألة الدمقرطة في المنطقة العربية أولوية كما القضية الفلسطينية، وحولهما يتمحور معظم إنتاج المركز بشكلٍ أو بآخر.
ثانياً، التعددية: وفّر إيمان المركز بالتعددية فرصةً نادرة له لإثبات أن التعدّدية والتنوع مصدر نجاح وقوة، وليس مصدر ضعف أو مؤشرا على التفكك، على غير الحال بشأن تجربةٍ أخرى، شهدت نجاحا لافتاً في العالم العربي، وهي تجربة مركز دراسات الوحدة العربية، ومقرّه بيروت، لكن ما أنهى هذه التجربة انغلاقها المطلق على القوميين العرب، وعدم قدرة المركز على الانفتاح على أصوات الشباب، والأصوات المنادية بالديمقراطية التي رأى فيها مركز دراسات الوحدة العربية دوماً توجساً وخطراً بوصفها حاملة للأفكار الغربية التي لا ترجو خيراً للمنطقة العربية، وبالتالي اضمحل المركز رويداً رويداً مع وفاة الرعيل الأول من القوميين العرب، وتحول المركز إلى دار نشر لنشر مذكرات الذين كانوا يوماً ما يحلمون بوطن عربي موحد من الخليج إلى المحيط، لكنهم تركوا لنا وطناً أشد تمزقاً وتفتتاً مما كان عليه في أي يوم من الأيام. وبالنسبة للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التعدد صفة رئيسية داخله، فالقوميون مع الإسلاميين واليساريين كلهم تجمعهم هموم عربية مشتركة، كما التعدّد الإثني والجهوي أعطى صفة العربية بحق وحقيقة على المركز.
ثالثاً: التمويل: يستسهل بعضهم القول إنه لولا التمويل الذي قدمته دولة قطر لما كان المركز العربي على ما هو عليه اليوم. ببساطة، التمويل وحده بدون الرؤية لا يحقق شيئاً، وذلك ملحوظ سابقا، وفي عدة مؤسسات عربية، مثل مؤسسة الفكر العربي التي أسسها الأمير خالد الفيصل، واقتصر دورها على مؤتمر سنوي احتفالي أكثر من كونها مؤسسةً قادرةً على تعميق الإنتاج العلمي بالعربية. وقد لعب التمويل الذي قدمته دولة قطر بكل تأكيد دورا حاسما في تحويل أحلام إلى أرض الواقع، مثل إصدار معجم تاريخي للغة العربية باسم معجم الدوحة، وتأسيس معهد للدراسات العليا الذي يحصل خريجوه على المعرفة العلمية بالعربية، ويشجعهم على إنتاج العلوم الاجتماعية والإنسانية باللغة العربية.
رابعاً: الإدارة والمؤسساتية: كما في الشركات الكبرى، تدار مؤسسات البحث والجامعات
الكبرى بالطريقة نفسها، حيث يلعب المؤسس دوراً رئيسياً في تحويل فكرته على أرض الواقع، وتوسيعها كي تصبح منافسة على المستويين الإقليمي والدولي. كذلك فعل عزمي بشارة في تأسيسه المركز العربي، وكان يقال الشيء نفسه عن خير الدين حسيب من العراق، في ما يتعلق بدوره في تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية وبنائه، لكن حسيب كان قومياً حتى النخاع، أما بشارة فهو ديمقراطي ومناضل فلسطيني، شجعه إيمانه بالتعدّدية التي هي صلب الديمقراطية في بناء المركز العربي على صيغة التعدّدية، فنجح، في حين أخفق حسيب في استقطاب هذا الجيل من الديمقراطيين الذي صنع، في النهاية، الثورات العربية، فضلاً عن أن حسيب ربما كان إدارياً جيداً، بينما بشارة قبل خبرته في الإدارة هو مفكر وباحث على مرتبة راقية من الإنتاج العلمي والأكاديمي.
وبكل تأكيد، مع كل قصة نجاح تكثر الانتقادات، وفي المنطقة العربية القائمة على الحسد أكثر منها على المنافسة تصبح الانتقادات هدفاً بحد ذاتها، من دون إدراك الهدف النبيل الذي يقوم به وعليه المركز. وفي الوقت نفسه، فإن توسع عمل المركز العربي بشكل كبير قد يحمل بعض الخطر، ولذلك تبقى الأولوية هي الإخلاص للهدف الأول الذي قام عليه المركز، أي رفع نسبة محتوى إنتاج المعرفة بالعربية، كي تصبح دليلاً على حيوية هذه الأمة، وبرهاناً على مرونة لغتها العربية، فبدلا من أن تكون النسبة على الإنترنت أقل من 0.6%، أي أقل من بلدان مثل بولندا وتشيكيا وإيران، وهي أصغر بكثير من الوطن العربي، وسكانها أقل بكثير من عدد سكانه، يجب أن تكون المرتبة الثالثة أو الرابعة على أقل تقدير، بدل السادسة عشرة التي لا تليق بحضارة أمةٍ كانت يوماً مصدر المعرفة والعلوم.
BCA0696E-8EAC-405E-9C84-3F8EA3CBA8A5
رضوان زيادة

كاتب وباحث سوري، أستاذ في جامعة جورج واشنطن في واشنطن