عن الماركسية والشاهنشاهية المعاصرة

29 يناير 2015

من تظاهرات الثورة الإيرانية في طهران ( 10 ديسمبر/1979/Getty)

+ الخط -

في عصر ما بعد الحداثة الذي نعيشه (عصر سيولة المعنى)، انتهت السرديات الكبرى والأيدولوجيات المتماسكة، فلم تعد هناك أيدولوجيا ماركسية واحدة بمذاهب متعددة، بل "ماركسيات" مختلفة. ولكن، من الخطأ الحديث عن موت هذه الماركسيات، فما زالت الأطروحات الماركسية التي تهدف إلى التحليل الطبقي للصراعات السياسية (بل والدولية) بزوايا مختلفة، تمتلك قدرة تفسيرية عالية نسبياً في تعرية ما يحدث هنا وهناك.

ربما كان لوي ألتوسير (مؤسس الماركسية البنيوية) أكثر الماركسيين تشاؤماً، وأكثرهم نزوعاً إلى الحتمية. ولكن، ربما لو كان لألتوسير التنبؤ بمستقبل الجمهورية الإسلامية، لخرج بقراءة أكثر نضجاً (وإن كانت بالتأكيد مأساوية) من ميشيل فوكو، صاحب "المراقبة والمعاقبة"، الذي بالغ في تفاؤله بمآل الثورة الإيرانية التي خطت بإيران خطوة إلى الأمام، ثم خطوتين إلى الخلف، بعد احتكارها في النهاية عقب عدد من المنعطفات.

رأى ألتوسير (ولم يذهب إلى ذلك وحده) أن أجهزة الدولة الأيدولوجية تعمل بقدر عال من الكفاءة، لضمان رضوخ أفراد المجتمع إلى ما تمليه عليهم البنية الكامنة، وعمل ما هو مطلوب منهم، لضمان استمرار النظام الرأسمالي. ويقول إيان كريب مفسراً كلام ألتوسير "إن شعورنا بأننا نحن الذين نقوم بما نقوم به من أفعال، إنما هو شعور خاطئ بصورة من الصور، أو هو شعور مضلل"، ويستكمل قائلا: "وألتوسير يطور فكرته حول هذه المسألة، بقدر كبير من الذكاء والإحكام، قائلا إن هذا الشعور ضروري ومضلل. وهو بذلك قد جعل هذا الشعور بأننا صانعو أفعالنا لب ما نعنيه بالأيدولوجيا". فلدى ألتوسير، تتحرك الذات كدمية في مسرح للعرائس.

ألتوسيرياً، كان جهاز الدولة الذي قامت عليه الجمهورية الإسلامية هو نفسه جهاز الدولة الشاهنشاهي بعد تقسيمه وإعادة تنظيمه مع بقاء جوهره ثابتاً. تطلب إعادة هيكلة جهاز الدولة تكيف الفقه تدريجيا لينتج الخطاب والفتاوى المطلوبة منه، تحت بنود "المصلحة والضرورة"، ثم لاحقاً جاء ما يسمى "الفقه الديناميكي" (فقه پويا) إطاراً لتوفيق إنتاج المجتهدين الشيعة مع الإطار القانوني – العقلاني للدولة الحديثة. ومن خلال التكييف الفقهي، مرت الجمهورية الإسلامية بمراحل، من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق. وحتى اللحظة توجد تغييرات اقتصادية وقانونية كبيرة ستتيح للمستثمرين الأجانب دوراً، لا نعلم حجمه بعد، في الاقتصاد الإيراني في المرحلة المقبلة.

تنخرط النخب الأمنية – العسكرية في الاقتصاد (الأمر الذي حدث تدريجياً منذ عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني، ووصل إلى أوجه في عهد أحمدي نجاد) إلى حد التحكم فيه. تتحكم هذه النخبة، من خلال شبكة علاقات واسعة في قطاعات النفط والغاز والصناعات الهندسية، والأهم القطاع المصرفي الذي يشكل صلب النظام الاقتصادي. بدأت إدارة الرئيس حسن روحاني، منذ فترة، في انتقاد الدور الذي تلعبه البنوك في القطاعات الاستثمارية، لاعباً اقتصادياً، بدلاً من مقدم للتسهيلات المصرفية للمستثمرين لتحفيز النمو الاقتصادي. كما أن عدداً من هذه البنوك شرعت بفترات في التنافس على رفع قيمة الفائدة لجذب المواطنين الإيرانيين إلى إيداع أموالهم، في تحدٍ لأوامر البنك المركزي. وبذلك، قد يؤثر ذلك التنافس بين النخب سلباً على النمو الاقتصادي.

يمتد ذلك التنافس لينعكس جيوسياسياً على الصعيد الإقليمي، فالرغبة في توسيع قواعد الإنتاج لتحقيق معدلات ربح أعلى ونمو اقتصادي أكبر تجعل من البحث عن أسواق جديدة ضرورة. والرغبة في معالجة أزمات تراجع عائدات الريع بسبب تراجع أسعار النفط باتت تحفز دوائر صنع القرار (المنخرطة أيضا في النشاط الاقتصادي) أكثر من ذي قبل للتحول إلى اقتصاد غير ريعي، عبر تنمية الصادرات غير النفطية إلى دول الجوار.

جيوسياسياً، يوفر كسب حلفاء جدد وأرضيات جديدة بالضرورة أسواقاً جديدة. ولذلك، ربما يصبح استمرار الحرب ضرورة لإحلال نخب موالية جديدة محل أخرى، لتسهيل مصالح جديدة (كذلك، نتيجة توازنات إقليمية)، أو تعزيز موقع نخب موالية قديمة، نظير امتيازات اقتصادية مغرية. ولكن، لكي لا نقع في فخ قراءة اقتصادوية ((Economism للعلاقات الدولية، يجب التأكيد على أن العوامل الأمنية والاستراتيجية (التي تظل محورية) هي التي تصوغ محددات السياسة الخارجية للدولة وأطرها، وإن جاءت تحت تأثير النخب الاقتصادية، بحسب درجات تطور الهياكل الاقتصادية للمجتمع.

كان لافتاً للنظر، في هذا السياق، خفض العراق الحواجز الجمركية أمام السلع والبضائع الإيرانية. وفي منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أفادت وكالة أنباء فارس، نقلا عن مجيد قرباني، مدير قطاع العراق في مؤسسة تنمية التجارة الإيرانية، خفض التعريفة الجمركية في العراق أمام السلع الإيرانية، بنسبة تتراوح بين الصفر والخمسة في المائة (وكالة أنباء فارس 14/ 9/ 2014). وفي الأعوام القليلة الماضية، عقدت طهران عدة اتفاقات تجارية مع العراق.

تشكل الحالة السورية، أيضاً، حالة بارزة في سياق التوسع الاقتصادي لإيران (مهما بدا ذلك التوسع متواضعاً)، فقد باتت إيران مهيمنة على الاقتصاد السوري، بفعل الخطوط الائتمانية التي تستخدمها دمشق، لاستيراد حاجاتها السلعية، نظير توفير الأخيرة لإيران حصصاً استثمارية ضخمة (موقع المدن الإلكتروني 27/ 03/ 2014)، ما يدفع إلى التساؤل عن أبعاد دور الاستثمارات الإيرانية في سورية بلا الأسد.

إذن، لماذا استغربنا تصريح نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني، العميد حسين سلامي، إن "دائرة قوة إيران تمتد جغرافياً إلى شرق البحر المتوسط، وإن ميزان القوى قد تغير لصالح الجمهورية الإسلامية"؟ هذه الجمهورية لا تختلف، في جوهرها، عن أي دولة حديثة توسعية، بطبيعتها تبحث عن تحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية في محيطها الإقليمي، وربما لا تختلف عن دولة الشاه كثيراً في عودتها إلى دور "شرطي الخليج"، مرة أخرى.

67298C2C-B221-4372-B4FF-CC3487819180
تامر بدوي

باحث في الشأن الإيراني والعلاقات الدولية