09 نوفمبر 2024
عن العرب اليهود
قبل بضعة شهور من عرض مسلسل "أم هارون"، المتهم بالترويج للتطبيع، وتبثه هذه الأيام قناة عربية معروفة، أعادت شبكة نتفلكس التذكير بقصة اليهودي المصري، إيلي كوهين، الذي سمّى نفسه كامل أمين ثابت، وحاول التقرّب من دوائر القرار في سورية خلال النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، قبل أن يتم اكتشاف أمره وإعدامه في دمشق، وذلك من خلال إنتاج الشبكة مسلسل "الجاسوس" الذي حظي بمتابعة كبيرة من المشاهدين.
من أبرز ما أجمعت عليه الروايات عن كوهين، على تناقضها واختلافها، أنه كان قبل هجرته إلى الكيان الصهيوني عضواً في مجموعة يهودية في الإسكندرية، عملت على تفجير عبوات ناسفة بغرض إثارة الاضطرابات، وأنه ما إن وصل إلى "إسرائيل" حتى عرض خدماته على جهاز المخابرات (الموساد)، وهذا كله يعني أنه لم يكن يحس بأنه مواطن عربي (مصري) يدين بالديانة اليهودية، كما يدين نظراؤه المصريون بالمسيحية أو بالإسلام، بل بأنه ليس مواطناً مصرياً من حيث المبدأ، وأن يهوديته تمثل هوية سياسية لا دينية أو حتى ثقافية، وحسب.
العرب اليهود، الذين هاجروا إلى "إسرائيل" بعد تأسيسها، من مصر والعراق والمغرب واليمن وسورية وغيرها، هل يختلفون في ذلك عن كوهين؟ ألا تعني هجرتهم إلى فلسطين أنهم تعاطوا مع يهوديتهم بوصفها هوية سياسية، وأنهم لم يكونوا يشعرون بأي انتماء لبلدانهم التي ولدوا فيها وتكلموا لغتها؟ دع عنك الصهيونية وأيديولوجيتها. إنما نتحدّث هنا عن مشاعر وطنية سبقت
الصهيونية، ثم لم ترتبط بها بالضرورة، فهذا السؤال ربما يكون مفتاحياً لفهم القصص التي تنبشها أعمال درامية حول عرب يهود عاشوا في الخليج، أو في غيرها من بلدان العرب.
ومن فائض القول إن العرب اليهود ليسوا كلهم صهاينة، ولم يخونوا كلهم بلدانهم الأصلية ويهاجروا إلى الكيان الصهيوني، بل منهم من لا يزال يشارك في الحياة العامة، ويؤثر فيها إيجابياً في بلدانهم العربية، كالمغرب. هؤلاء مواطنون في بلدانهم، يدينون باليهودية، وهم أحرار في معتقداتهم الدينية، ولا يجوز أن تكون مدخلاً للتمييز ضدهم وكأن الأمر جزء من مناكفة "إسرائيل". والإجابة المنطقية هنا أنه ينطبق على هؤلاء اليهود العرب المهاجرين إلى "إسرائيل" ما انطبق على إيلي كوهين، بالضرورة، وإلا ما كانوا هاجروا إليها.
ولكن هل يعني ذلك بالضرورة أن كل اليهود العرب الذين عاصروا ظهور "إسرائيل" ولم يهاجروا إليها، أو أنهم عاشوا ظروفاً منعت هجرتهم أو جعلتهم يفضلون البقاء في بلدانهم العربية الأصلية، لا تنطبق عليهم مثل تلك الأوصاف التي انطبقت على كوهين ونظرائه من المهاجرين؟ وإذا كان الحال كذلك، فلماذا تطرح الدولة الصهيونية نفسها اليوم مسؤولة عن تاريخ هؤلاء اليهود الذين عاشوا قبل عقود في الخليج ودول عربية أخرى، إلى درجة أن المتحدث باسم "الجيش الإسرائيلي"، أفيخاي أدرعي، كتب في تغريدة نشرها على حسابه في
تويتر: "الخلاصة التي نخرج منها بعد كل الردود الكارهة لليهود أثناء بث مسلسل أم هارون، هي أننا اليوم لسنا شعباً مغلوباً على أمره يستغيث بالآخرين، وإنما دولة عاقدة العزم على النضال من أجل سلامة وأمن مواطنيها"؟
لا تتعلق المسألة، إذن، بحقيقة هؤلاء العرب اليهود وانتماءاتهم الوطنية، بل بالكيفية التي ينعكس بها سرد قصصهم اليوم، وأحياناً تخيّلها، على تعريف العلاقة مع "إسرائيل". هذا هو بالضبط السبب الذي يجعل العرب الرافضين للتطبيع مع "إسرائيل"، يبدون امتعاضهم من دراما تلفزيونية تتحدّث عن يهودية عربية ربما لم تهاجر إلى الدولة الصهيونية، لو كانت هي القابلة أم جان التي عاشت في البحرين بين ثلاثينيات القرن العشرين وسبعينياته، أو ربما هاجرت لو كانت هي "أم شاؤول" التي عاشت في البصرة خلال الأربعينيات، فالمسألة عند رافضي التطبيع ليست في أم هارون ذاتها، بحسب تسمية المسلسل، وإنما في ما يمكن أن ينعكس على قبول "إسرائيل" نتيجة عرضه على الجمهور العربي.
وعلى هذا، تبدو الردود المؤيدة لعرض المسلسل، الرافضة الانتقادات الموجهة له، بدعوى أنه يعكس حالة حقيقية كانت موجودة في مجتمع عربي خليجي، ويسلط الضوء على "التسامح" بين
أتباع الأديان في ذلك المجتمع، ولا يتكلم أبداً عن "إسرائيل" ولا عن التطبيع معها، تبدو بمثابة انخراط في "حوار طرشان"، أو ككلام حقٍّ يُراد به باطل، فالأمر، مرة أخرى، ليس في أم هارون وحياتها، بل في ما يمهد له اختيار قصتها لإنتاج عمل درامي، اليوم.
ولا يظنن أحد أن منتقدي مثل هذه المسلسلات من رافضي التطبيع يجهلون الفرق بين اليهودية والصهيونية، أو يوافقون على رواية "إسرائيل" بأنها الممثل الشرعي لكل يهود العالم، بمن فيهم اليهود العرب، فغاية ما في الأمر أنهم يرفضون تصوير وجود اليهود في بلداننا "طبيعياً"، بعد عقود من غيابهم عنها، فذاك بالنسبة لهم أمرٌ يمسّ المستقبل، لا الروايات التاريخية، ويشرح نوايا مضمرة غير طيبة، يعتبرونها مكشوفةً، لدى من يقفون وراء إنتاج هذا المسلسل كجزء من سياسة بناء علاقات تحتضن الكيان الصهيوني المُحتل، وتنفتح عليه.
العرب اليهود، الذين هاجروا إلى "إسرائيل" بعد تأسيسها، من مصر والعراق والمغرب واليمن وسورية وغيرها، هل يختلفون في ذلك عن كوهين؟ ألا تعني هجرتهم إلى فلسطين أنهم تعاطوا مع يهوديتهم بوصفها هوية سياسية، وأنهم لم يكونوا يشعرون بأي انتماء لبلدانهم التي ولدوا فيها وتكلموا لغتها؟ دع عنك الصهيونية وأيديولوجيتها. إنما نتحدّث هنا عن مشاعر وطنية سبقت
ومن فائض القول إن العرب اليهود ليسوا كلهم صهاينة، ولم يخونوا كلهم بلدانهم الأصلية ويهاجروا إلى الكيان الصهيوني، بل منهم من لا يزال يشارك في الحياة العامة، ويؤثر فيها إيجابياً في بلدانهم العربية، كالمغرب. هؤلاء مواطنون في بلدانهم، يدينون باليهودية، وهم أحرار في معتقداتهم الدينية، ولا يجوز أن تكون مدخلاً للتمييز ضدهم وكأن الأمر جزء من مناكفة "إسرائيل". والإجابة المنطقية هنا أنه ينطبق على هؤلاء اليهود العرب المهاجرين إلى "إسرائيل" ما انطبق على إيلي كوهين، بالضرورة، وإلا ما كانوا هاجروا إليها.
ولكن هل يعني ذلك بالضرورة أن كل اليهود العرب الذين عاصروا ظهور "إسرائيل" ولم يهاجروا إليها، أو أنهم عاشوا ظروفاً منعت هجرتهم أو جعلتهم يفضلون البقاء في بلدانهم العربية الأصلية، لا تنطبق عليهم مثل تلك الأوصاف التي انطبقت على كوهين ونظرائه من المهاجرين؟ وإذا كان الحال كذلك، فلماذا تطرح الدولة الصهيونية نفسها اليوم مسؤولة عن تاريخ هؤلاء اليهود الذين عاشوا قبل عقود في الخليج ودول عربية أخرى، إلى درجة أن المتحدث باسم "الجيش الإسرائيلي"، أفيخاي أدرعي، كتب في تغريدة نشرها على حسابه في
لا تتعلق المسألة، إذن، بحقيقة هؤلاء العرب اليهود وانتماءاتهم الوطنية، بل بالكيفية التي ينعكس بها سرد قصصهم اليوم، وأحياناً تخيّلها، على تعريف العلاقة مع "إسرائيل". هذا هو بالضبط السبب الذي يجعل العرب الرافضين للتطبيع مع "إسرائيل"، يبدون امتعاضهم من دراما تلفزيونية تتحدّث عن يهودية عربية ربما لم تهاجر إلى الدولة الصهيونية، لو كانت هي القابلة أم جان التي عاشت في البحرين بين ثلاثينيات القرن العشرين وسبعينياته، أو ربما هاجرت لو كانت هي "أم شاؤول" التي عاشت في البصرة خلال الأربعينيات، فالمسألة عند رافضي التطبيع ليست في أم هارون ذاتها، بحسب تسمية المسلسل، وإنما في ما يمكن أن ينعكس على قبول "إسرائيل" نتيجة عرضه على الجمهور العربي.
وعلى هذا، تبدو الردود المؤيدة لعرض المسلسل، الرافضة الانتقادات الموجهة له، بدعوى أنه يعكس حالة حقيقية كانت موجودة في مجتمع عربي خليجي، ويسلط الضوء على "التسامح" بين
ولا يظنن أحد أن منتقدي مثل هذه المسلسلات من رافضي التطبيع يجهلون الفرق بين اليهودية والصهيونية، أو يوافقون على رواية "إسرائيل" بأنها الممثل الشرعي لكل يهود العالم، بمن فيهم اليهود العرب، فغاية ما في الأمر أنهم يرفضون تصوير وجود اليهود في بلداننا "طبيعياً"، بعد عقود من غيابهم عنها، فذاك بالنسبة لهم أمرٌ يمسّ المستقبل، لا الروايات التاريخية، ويشرح نوايا مضمرة غير طيبة، يعتبرونها مكشوفةً، لدى من يقفون وراء إنتاج هذا المسلسل كجزء من سياسة بناء علاقات تحتضن الكيان الصهيوني المُحتل، وتنفتح عليه.