عن الذي أرهقنا سياسياً

02 ابريل 2015
+ الخط -

كانت المفأجاة عندما اكتشفت أن عدد المعتقلات اللاتي ينتسبن لجماعة الإخوان المسلمين بشكل تنظيمي، لا يتعدى سبع فتيات من إجمالي 24 معتقلة في العنبر الجنائي، و28 في العنبر الأزهري، فالأخوات هنا قلة، رغم أننا جميعاً في الحبس باعتبارنا فصيلاً يحركه الإخوان.

عراك سياسي تشهده الزنزانة يومياً خلال مناقشات عشوائية لتحليل الموقف المصري وقراءة السيناريوهات المتوقعة على كافة الأصعدة... كلما تحدثت إحدى الفتيات "المحسوبات" على جماعة الإخوان المسلمين لتبرير ما نسب من إخفاقات في عهد محمد مرسي، وجدت سيلا من الانتقادات وهجوماً حادّاً من نوعية "الساكت عن الفساد كفاعله، كنا نريد رئيساً قوياً في الحق ليس متساهلاً كمرسي أو طاغية كالسيسي".

صدقت حواراتهن وجرأتهن في عرض مشاكل الأنظمة، والتي ترسخ في الأذهان فكرة "فخ" التابعية الذي لم ينجُ منه إلا هؤلاء.. هؤلاء ممن لا ينتمين إلى جماعات إخوانية، أو فرق عسكرية، أرفع القبعة لهن، وأنا أشاهد حماستهن وغيرتهن على انتهاك وطن "تابع"، بعيداً عن الأضواء و"التطبيل السياسي".

إن أردت أن تتلقى دروساً بالوطنية، فلتحضر ورقة وقلماً وتكتب من وراء معتقلات الرأي، وتحديداً الشقيقتين سارة وآلاء محمد عبد العال، تمنيت لو أن معي كاميرا لأصور تلك المحادثات التي تبدأ بمشادات كلامية حادة، وتنتهي بضحكات ساخرة تصل للبكاء على الوضع المخزي، الذي جعل الإخوان ومعارضيهم في خندق واحد بتهمة "الشروع في ثورة" بينما قتلةُ الثوار الحقيقيون وأتباعهم من مناهضي الثوارت ينعمون بالحرية خارج أسوار السجون.

سارة هي الصغرى، 19 سنة، طالبة في السنة اﻷولى في كلية الدراسات الإسلامية في الأزهر، أما آلاء 21 سنة، ففي السنة الثالثة في الكلية نفسها. اعتقلتا يوم 28 سبتمبر/أيلول 2013، وتم الاعتداء عليهما داخل إحدى المدرعات عقب اعتقالهما من أمام جامعة الأزهر، وأصدرت إدارة الجامعة قراراً بمنعهما من دخول الامتحانات. دافعهما للتظاهر مضاعف، بعد فقدانهما أختهما الثالثة، مريم عبدالعال، والتي لاقت مصرعها برصاص الداخلية خلال مجزرة فض ميدان رابعة.

انتقاد لاذع للإخوان وسياسية الطبطبة التي كان ينتهجها الرئيس السابق، محمد مرسي.. محاكمات رمزية نصبت بالمعتقل لإدانة تباطؤ حكومة قنديل في تحقيق إنجاز سريع يشعر به المواطن البسيط، سيمفونية ثورية لا مجال فيها لمشاعر، فالقاموس الثوري لا يعترف بتبريرات ساذجة.

مُعارضات الإخوان لا تنام عقولهن في المعتقل وهن يتساءلن عن الإجراءات، التي اتخذها مرسي بصفته رئيس جمهورية، لتطهير عفن المؤسسات المباركية، ويتحدثن بانفعال مفرط وكأنهن يخاطبن شخص مرسي أمامهن: "قد نقدر مجهوداته في مبادرات الإصلاح المجتمعي لجسد مسرطن الفكر، ولكن سكوته عن إعلان المصارحة الشعبية أمر لا يغتفر، ثم أين الجماعة من المكر الاستراتيجي لوأد مخطط الانقلاب العسكري وجهاز المخابرات يتلاعب لإفشاله؟"، سلبيات وأخطاء يرينها لا تليق بجماعة تخطط لأستاذية العالم، كما يقول مؤسسها.

"اتوكسوا.. بسلميتكم" عبارة ترددها معتقلات الرأي من غير الإخوان، مغتاظات من سوء استخدام الجماعة مقاليد الحكم في فترة زمنية "عصيبة" أعلنوا فيها قدرتهم على تطويعها.

تعلو الأصوات وتهدأ بنقاشات لو سمعها الرجال لتضاءلوا خجلاً، أقتطع مشاهد لانفعالاتهن وأستمتع بمشاهدتها صامتة، وفي لحظة متجردة من أية انتماءات سياسية أو عصبية جماعية، لمعت في ذهني فكرة تبادل الأدوار، بأن أتقمص لثوان نفسية رجل الأمن المصري، الذي يرى في تعذيب المعتقلين وذبحهم عملاً بطولياً، يخرج وزملاء مهنته يومياً مدججاً بالأسلحة في كل يوم لحصد مئات الأرواح في الميادين، ويتباهى بتلك الأفعال القتالية بين زملائه، ويمتدحهم الإعلام بأغاني النصر وكـأنهم يواجهون المستعمر الصهيوني. من أين يأتون بالسلام النفسي فتغمض أجفانهم ليلاً؟ وكيف يمارسون تفاصيل حياتهم بشكل طبيعي وكأن شئياً لم يكن؟

لم يستطع أحدهم أن يكتم كلماته المحشورة في حلقه، ظل يحدق النظر إليّ، ويضرب كفاً بآخر. تقدم نحوي ضابط قسم الساحل وبطريقة يملأها الغضب، تحدث خلال اقتياده لنا إلى إحدى الجلسات الهزلية: "وكل ده عشان إيه؟ عشان فلوس؟ بتاخدي كام؟ وبتقبضي من قطر كام عشان تبيعوا البلد؟"، فقاطعه شرطي آخر ليشاركه حواره: "يا عم دي كمان من العيال النشطا اللي بيقلبوا الدنيا على النت"، فضاقت عيون الأول متأثراً: "وكمان ناشطة!!". فقاطعتهما: "هي ناشطة دي حاجة عيب!" فاتسعت عيون كليهما وضاقت وهما يتحدثان عني وكأني جاسوسة موساد.

آذانهما لا تسمعني وأنا أتحدث عن حرية الرأي والصحافة ودورنا في مراقبة ومتابعة وبث الحقائق كما هي في الشوارع، أو قد يسمعان ولا يريدان التصديق، لاعتبارات وظيفية بفقدان عمل أو تخوفاً من اختراق عقل سيفقد احترامه لنفسه لو علم الحقيقة كاملة، أو أنهما يدركان بشاعة فعل القتل وعظمته ويصران على ممارسته في تلذذ! أو أن الخروج من دوامات الباطل ليس سهلاً كالدخول فيها.

إن كان الإخوان يتاجرون بشرع الله فليُرِنا الطرف الآخر طريقتهم النظامية في الامتثال لشرعه بمفهومهم الإسلامي الصحيح، كما يزعمون!

"إرهابيون".. كلمة لا يمل ولا يكل رجال الشرطة من ترديدها، يملؤون الدنيا ضجيجاً بوصفهم هذا لكل من يعارض مذابحهم النظامية.. سندع لكم حرية توصيف أنفسكم وأنتم تقتحمون المنازل وتعتقلون الآلاف وتتحرشون بالنساء وتسبون الأديان.

نعم.. أجبرنا على دخول المسرح السياسي دون قطع تذاكر، وأبهرتنا استعراضات الأحزاب الرخيصة على مسارحهم لاجتذاب شريحة كبيرة من الشباب إلى دوامات التقديس لشخصهم وفرقهم الحزبية، لنكتشف في نهاية العرض أننا فقدنا أحلامنا وأعمارنا في سبيل أفكار مشوهة، فلم نكن سوى "بلياتشو" ضحكت على غباوته جميع الدول.

فلنعد إلى نقطة الصفر إذن، إن أردنا الخروج بأقل الخسائر، بالابتعاد قليلاً عن دائرة التحزب، ولنرَ الصورة واضحة بلا تشويش، فجميع المعطيات تبرهن على أنه لا بديل عن الدوران بفلك الله إن اردنا بصدق الوقوف على صراط الحقيقة، وإنهاء الصراعات الحزبية إن أردناها "وحدة".. لا فرقة ودماً. ولن يتأتى ذلك الإ بالإجابة عن أسئلة وجودية لا مصالح فيها لجماعات أو أفراد: "ماذا يريد منا الله؟ وكيف يحب أن يرانا؟ وماهي حدود الله كي لا نتعداها، فيتجرأ عباد أمثالنا على انتزاع صفاته؟"

لا تدع أحداً يحركك في دائرة صراع طائفية، فلسنا في مباراة كرة قدم، ولا أحد يحمل عن آخر ضريبة سذاجته في قبره.. هي معركة وعي بالدرجة الأولى لن يجتازها إلا صحيح الفهم، بالوقوف في مناطق الحياد الرمادية للتفريق بين نظام عسكري مستبد يسعى إلى الانفراد بالسلطة، ويقتل كل من يقترب من انتزاع الكرسي، ونظام أرهقنا سياسياً بالتهاون في بتر أذرع الفساد المتفشية.

المساهمون