عن التّين والزيتون والحكم الرشيد!

20 نوفمبر 2018
+ الخط -
حبت الطبيعة أرض سورية خيرات لا تحصى حيث تربتها الخصبة ومياهها الوفيرة وفصولها الأربعة مكتملة العطاء جعلت منها أرض العسل واللبن، على حد ما قاله ذات يوم الصليبيون عشية غزوهم بلاد الشام تحت عناوين كثيرة، كان أبرزها الدفاع عن الأرض المقدسة والمؤمنين من مسيحييّ المشرق والذين يتعرضون، حسب زعمهم، لاضطهاد من قبل الكفار المسلمين!!

وحين اجتاحت جحافل الغزاة أرض الشام هاربين من بؤس حالهم بعد أن عضتهم أنياب الجوع والفاقة خلال السنين العجاف لبلادهم وجدتها جنة الدنيا وبهجتها حيث الظلال وارفة والينابيع صافية زلال والمُناخ معتدل كأهلها والخير عميم ومتنوّع، فأهل هذه البلاد بُناة حضارة عريقة متجذّرة وأصيلة، حيث يصعب في هذا المقام الخوض بتفاصيلها الواسعة والثريّة، لكننا نستطيع القول إن ما دُوّن على الرّقوق ورُقم الطين من نصوص أدهشت العالم كانت كفيلة بتأكيدها على أن السوريين صنّاع حضارة بكدح سواعدهم وأدمغتهم، فالميثيولوجيا السورية عبّرت بسطوع مبهر عن مخيال السوريين وأحلامهم وطموحاتهم والتي قاربت النجوم والكواكب وسبرت أغوارها، ولذا نجدهم أبدعوا بعلوم الفلك كما بفنون الرسم والغناء والموسيقا وعلوم الزراعة التي أولوها جُل اهتمامهم حيث وطّنوا غرسات الزيتون منذ آلاف السنين لتتحول هذه الشجرة المعمرة والدائمة الخضرة إلى رمز للحياة والسلام والاستنارة والطبابة، وكذلك إيداماً للبشر من خلال زيتها والذي أخذ طابع القداسة بعد أن جعله المسيح ابن مريم دواءً يمسح به رؤوس المرضى.


ولعل من المفيد ذكره هنا هو اهتمامي ومنذ سنوات بقضايا الأمن الغذائي في سورية وذلك من خلال الإنتاج الزراعي المتنوّع والمتمثّل بالأقماح الطيبة والمتعدّدة الأصناف وكذلك أشجار الحمضيات والتين والزيتون، حيث بلغت أشجار هذه الأخيرة عشيّة الثورة السورية ما يقرب من المئة وعشرين مليون شجرة وذلك بسبب التّوسع الملفت بالمساحات المزروعة بها وإقبال الفلاح السوري على زراعتها بحماسة واهتمام، ما جعلني ذات يوم أطلق على زيت الزيتون السوري لقب البترول الأخضر حيث كل النفوط ستنفد ولن ينضب زيت الزيتون فهو خالد كما هذه الشجرة الخالدة.

أما شجرة التين والتي لا تحتاج لكثير اعتناء، فهي الأخرى تعتبر من الزراعات الاستراتيجية، خاصة أنها لا تحتاج للرعاية، فشجرة التين تنبت في كل مكان حتى تجدها أحياناً تفلق الصخر وتخرج من أحشائه بأوراقها الزاهية الخضراء لتحمل أغصانها طِيب الثّمر وحلاوة المذاق.

والفواكه في سورية وفيرة ومتنوّعة الأصناف، حيث ساحلها وجولانها المحتل ينتج التفاح السكّري العذب والكرز الشهيّ وتوت الشام وعشرات الأصناف من الفاكهة اللذيذة والطيبة والتي تظنها قُدّت من البلّور حيث ارتوت أشجارها من أعذب الينابيع وتشرّبت من شمس المتوسط الزّاهية، وكذلك الحمضيّات السّورية فحدّث ولا حرج، أما الإنتاج الحيواني والمتمثل بالثروة السمكية الوفيرة كون سورية مشاطئة للمتوسط وخبرة أهلها الواسعة بالتعامل مع البحر وفنون الصيد قديمة قدم التاريخ، أضف لذلك اللحم البلدي المشهود بطعمه الزكي وفنون طبخه من خلال المطبخ السوري العريق، فسورية على العموم هي سلة خيرات لا تعد ولا تحصى وكل بلائها يكمن في ابتلائها بنظام سياسي غير رشيد اعتمد منذ عقود على سحب الدعم من المنتجين السوريين، وخاصة في حقليّ الزراعة والإنتاج الحيواني، وعمم النمط الريعي الطّفيلي على الاقتصاد السوري، ما عرّض الفلاح السوري لمصاعب جمة وأضحى نهباً للحلقات الطفيلية الوسيطة التي سطت على كده وكدح أسرته، وهو ما جعل ظهره مكشوفاً دون أي حماية جديّة، وهذا ما جعل مشاركة أبناء الريف السوري في الثورة السورية واسعة وفاعلة بقوة، وخاصة في معقل الثّورة بحوران الأبيّة وإدلب الخضراء، وهما المحافظتان السوريتان الزراعيتان المهمتان، ما يؤكد أن الثورة السورية العظمى لم تُختصر أهدافها بمطلب الحرية والسعي للتخلص من النظام العصبوي الديكتاتوري وحسب بل بالإيمان الواسع والعميق بقضية العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والتي داس عليها هذا النظام العائلي البغيض منذ عقود خلت.
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
مصطفى الدروبي
مصطفى الدروبي