غريب أمر جدي، كيف كان يختلف عن كثيرين، فهو الفلاح وابن الريف الذي عاش معظم حياته في بلدته جرجوع، القرية الجنوبية الهادئة بين الزراعة وتربية المواشي وفي قلب الطبيعة الخلابة والغابات، فرغم ذلك كله كان يكره الورود، وكل أنواع شتول وأشجار الزينة في الحدائق. وكان كل ما صادف شتلة من الزهر سارع إلى اقتلاعها من جذورها مردداً قوله الشهير "شو بدنا نحوّش عنها لوبيا"، واستخدامه التشبيه باللوبيا لأنها من الزراعات الأساسية التي كان يعتمدها أبناء بلدتي نظراً لوفرة المياه وكونها من الخضار التي يستطيعون تموّنها والاستفادة منها طوال السنة.
تقول أمي إنها وعلى مدى عشرات السنين دأبت على زرع وتزيين حديقة منزلنا الصيفي بالورود وأشجار الزينة والاهتمام بها طوال الصيف، ومع نهاية العطلة الصيفية كنا نعود كالكثيرين من أبناء البلدة نقضي الشتاء في بيروت حيث مدارسنا ووظيفة أبي، وكان جدّي هو من يهتم بالزراعة والعناية بحديقتنا في غيابنا. تقول إنها مع بداية كل صيف كانت تخوض مع جدي نقاشاً طويلاً لا ينتهي، لأنه يكون قد قلع كل ما زرعته في السنة السابقة والسبب هو زعمه بعدم الجدوى والنفع من هذه الزراعات، التي تكون بالغالب مكلفة وإن كانت محببة لدى الكثيرين، مردداً قوله الشهير "شو بدنا نحوّش عنها لوبيا".
اقرأ أيضاً: عن القطّ الإسرائيلي الذي طردني من العمل
على عكس جدتي التي أينما وطئت قدمها سعت لزرع شتلة ورد أو أي نبتة تنتج زهرة ملونة تضيف جمالاً، فملأت عتبات الدار وحواف النوافذ وزوايا الدرج كلها من علب الحليب او علب السمن والزيت القديمة وزرعت في داخلها شتول الحبق والقرنفل والمردكوش وغيرها، وكانت كيفما سارت تزرع هنا وتسقي هناك، فتحول كل ما أحاط بها الى واحات جميلة، طبعاً ودائماً في نقاش مع جدي يصل في كل مرة إلى حد الشجار على جدوى وضرورة هذه المزروعات
هكذا كانا، فجدّي وجدتي مختلفان طوال الوقت، لا أذكرهما متفقين قط، فلا هي تقبل ما يقوم به ولا هو يرضى بما تفعله. فكلاهما على طرفي نقيض من كل أمر، جدتي كانت امرأة اجتماعية بامتياز، فبالرغم من انشغالها الدؤوب بهموم العائلة الكبيرة وهموم البيت وإطعام وحلب البقرات والاهتمام بالزرع والحقل، مسؤوليات ومشقات لا تنتهي، كان لا يفوتها واجب اجتماعي، فهي القريبة من الناس كل الوقت، والحاضرة في كل المناسبات، الودودة والمحبوبة من الجميع.
أما جدي فكان يميل بطبعه الى الابتعاد عن الناس. فالناس برأيه لا تأتي إلا بالمشاكل، يتجنب الزيارات لما فيها من "قال وقيل" كما يسميه، أذكر أنه كان يقصد كل يوم بيتنا البعيد عن بيته وعن بيوت أهل البلدة عامة، ليأخذ قيلولة بعد الظهر ويعود بعدها لداره في وسط الضيعة وهي مسافة ليست بالقريبة.
وبالرغم من الاختلاف الجوهري بين جدي وجدتي، واختلافهما بالرأي وطريقة العيش وفهمهما للأمور، كان يربط بينهما سرّ كبير، لعلهما، لا يدركانه. فكان من الواضح انهما اعتادا على بعضهما البعض، اعتادا على الاختلاف الدائم والمشكل اليومي، إلى حد صعب على أحدهما الابتعاد عن الآخر خشية عدم وجود من يختلف معه.
مرّ على بلدتنا كما سائر قرى الجنوب اللبناني حروب وظروف أمنية قاسية، أجبرت أهالي البلدة على هجرتها مرات عديدة، وفي كل مرة كان جداي يقصداننا في بيروت ريثما يهدأ القصف ويعود الهدوء الى البلدة، وهناك كان لهما مزاج مختلف، فلا اهتمامنا ولا الراحة تنسيهما قلقهما من الوضع، ما جعل لخلافهما شكل آخر، فباتا متلاصقين كل الوقت كولدين تائهين، فالتباين في كل الأمور لا يلغي اتفاقهما على الخوف والقلق، فصارا يستظلان بعضهما البعض.
لجدي وجدتي سرّهما، عاشا معاً، كبرا معاً، تعبا معاً، أصيب جدي ذات يوم بوعكة صحية ما اضطرنا لإدخاله المستشفى، ساعات ودخل في غيبوبة من حدة الالتهاب الذي ضرب رئتيه، وقبل معرفة جدتي بحالته توعكت هي الأخرى فأدخلناها إلى المستشفى نفسه، في صباح اليوم التالي توفي جدي بعد أن ساء وضعه، سألت جدتي عن حالته، لم نخبرها بوفاته كي لا نزيد على وضعها ما يسيء لحالها، في مساء اليوم نفسه فارقت جدتي الحياة.
كأني أرى بهما اليوم رفضهما أن يغادر أحدهما دون الأخر، وكأني أسمعهما يلومان بعضهما كيف قرر أحدهما أن يسبق الآخر ولو بساعات قليلة.
تقول أمي إنها وعلى مدى عشرات السنين دأبت على زرع وتزيين حديقة منزلنا الصيفي بالورود وأشجار الزينة والاهتمام بها طوال الصيف، ومع نهاية العطلة الصيفية كنا نعود كالكثيرين من أبناء البلدة نقضي الشتاء في بيروت حيث مدارسنا ووظيفة أبي، وكان جدّي هو من يهتم بالزراعة والعناية بحديقتنا في غيابنا. تقول إنها مع بداية كل صيف كانت تخوض مع جدي نقاشاً طويلاً لا ينتهي، لأنه يكون قد قلع كل ما زرعته في السنة السابقة والسبب هو زعمه بعدم الجدوى والنفع من هذه الزراعات، التي تكون بالغالب مكلفة وإن كانت محببة لدى الكثيرين، مردداً قوله الشهير "شو بدنا نحوّش عنها لوبيا".
اقرأ أيضاً: عن القطّ الإسرائيلي الذي طردني من العمل
على عكس جدتي التي أينما وطئت قدمها سعت لزرع شتلة ورد أو أي نبتة تنتج زهرة ملونة تضيف جمالاً، فملأت عتبات الدار وحواف النوافذ وزوايا الدرج كلها من علب الحليب او علب السمن والزيت القديمة وزرعت في داخلها شتول الحبق والقرنفل والمردكوش وغيرها، وكانت كيفما سارت تزرع هنا وتسقي هناك، فتحول كل ما أحاط بها الى واحات جميلة، طبعاً ودائماً في نقاش مع جدي يصل في كل مرة إلى حد الشجار على جدوى وضرورة هذه المزروعات
هكذا كانا، فجدّي وجدتي مختلفان طوال الوقت، لا أذكرهما متفقين قط، فلا هي تقبل ما يقوم به ولا هو يرضى بما تفعله. فكلاهما على طرفي نقيض من كل أمر، جدتي كانت امرأة اجتماعية بامتياز، فبالرغم من انشغالها الدؤوب بهموم العائلة الكبيرة وهموم البيت وإطعام وحلب البقرات والاهتمام بالزرع والحقل، مسؤوليات ومشقات لا تنتهي، كان لا يفوتها واجب اجتماعي، فهي القريبة من الناس كل الوقت، والحاضرة في كل المناسبات، الودودة والمحبوبة من الجميع.
أما جدي فكان يميل بطبعه الى الابتعاد عن الناس. فالناس برأيه لا تأتي إلا بالمشاكل، يتجنب الزيارات لما فيها من "قال وقيل" كما يسميه، أذكر أنه كان يقصد كل يوم بيتنا البعيد عن بيته وعن بيوت أهل البلدة عامة، ليأخذ قيلولة بعد الظهر ويعود بعدها لداره في وسط الضيعة وهي مسافة ليست بالقريبة.
وبالرغم من الاختلاف الجوهري بين جدي وجدتي، واختلافهما بالرأي وطريقة العيش وفهمهما للأمور، كان يربط بينهما سرّ كبير، لعلهما، لا يدركانه. فكان من الواضح انهما اعتادا على بعضهما البعض، اعتادا على الاختلاف الدائم والمشكل اليومي، إلى حد صعب على أحدهما الابتعاد عن الآخر خشية عدم وجود من يختلف معه.
مرّ على بلدتنا كما سائر قرى الجنوب اللبناني حروب وظروف أمنية قاسية، أجبرت أهالي البلدة على هجرتها مرات عديدة، وفي كل مرة كان جداي يقصداننا في بيروت ريثما يهدأ القصف ويعود الهدوء الى البلدة، وهناك كان لهما مزاج مختلف، فلا اهتمامنا ولا الراحة تنسيهما قلقهما من الوضع، ما جعل لخلافهما شكل آخر، فباتا متلاصقين كل الوقت كولدين تائهين، فالتباين في كل الأمور لا يلغي اتفاقهما على الخوف والقلق، فصارا يستظلان بعضهما البعض.
لجدي وجدتي سرّهما، عاشا معاً، كبرا معاً، تعبا معاً، أصيب جدي ذات يوم بوعكة صحية ما اضطرنا لإدخاله المستشفى، ساعات ودخل في غيبوبة من حدة الالتهاب الذي ضرب رئتيه، وقبل معرفة جدتي بحالته توعكت هي الأخرى فأدخلناها إلى المستشفى نفسه، في صباح اليوم التالي توفي جدي بعد أن ساء وضعه، سألت جدتي عن حالته، لم نخبرها بوفاته كي لا نزيد على وضعها ما يسيء لحالها، في مساء اليوم نفسه فارقت جدتي الحياة.
كأني أرى بهما اليوم رفضهما أن يغادر أحدهما دون الأخر، وكأني أسمعهما يلومان بعضهما كيف قرر أحدهما أن يسبق الآخر ولو بساعات قليلة.