مع إتمام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عامه الأول في البيت الأبيض، رفض مجلس الشيوخ مشروع قانون لتمديد الإنفاق الحكومي لمدة شهر واحد، ما أدى إلى إغلاق العديد من الجهات والخدمات الحكومية.
وكانت الحكومة قد نجحت في مد الاتفاق المؤقت أكثر من مرة، خلال الفترة الماضية، انتهى آخرها بنهاية الأسبوع الماضي، ولم تفلح جهود ترامب وحكومته في الوصول إلى اتفاق جديد، وهو ما أدى إلى إغلاقها بالفعل.
وجاءت نتيجة التصويت على المشروع في مجلس الشيوخ 50 -49 صوتاً، لغياب النائب الجمهوري، جون ماكين، الذي يتلقى علاجاً لمرض السرطان، على الرغم من تصويت خمسة من النواب الديمقراطيين بالموافقة، وذلك لرفض خمسة من النواب الجمهوريين له، وكان الأمر يتطلب موافقة 60 نائباً على الأقل من أجل تمرير مشروع القانون.
وكما أوضحت نتيجة التصويت، فإن نواب الشعب في أميركا، كما في أوروبا والدول المتقدمة، لا يتعين عليهم أن يصوتوا مع كل ما يقدمه حزبهم من مشروعات أو قرارات، وإنما يصوت كل نائب مع ما يراه هو في صالح الوطن.
ولا يعني ذلك أن نواب الشعب هناك من الملائكة، فأنا أعلم جيداً أن بعضهم يصوت أحياناً لما يتوافق مع مصالحه الخاصة، ولكن هذه الحالات تكون استثناءً، وفي كل الأحوال، فإن "البصمجية" لا وجود لهم هناك، فكل نائب يقوم بدراسة مشروع القانون أو القرار المقترح بنفسه، من أجل اتخاذ القرار الذي يراه مناسباً.
وعندما تغلق الحكومة أبوابها، فهي لا توقف كل أعمالها، وإنما تستمر في أداء الأعمال التي قد يؤدي توقفها إلى تعريض الأمن القومي الأميركي، أو صحة المواطن الأميركي، للخطر.
وبناء على ذلك، فإن العديد من المهام الحكومية تستمر كما هي، مثل العمليات العسكرية والعمليات المتعلقة بالأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية.
كما أن قوات إنفاذ القانون، وتأمين المواصلات، والرقابة على الأطعمة في وزارة الزراعة لن تتوقف عن أداء المهام المنوطة بها. وستتواصل مدفوعات التأمين الاجتماعي ومدفوعات التأمين الصحي الخاصة بأصحاب الدخول المنخفضة.
كما يسمح الإغلاق لبعض الجهات، مثل وكالة حماية البيئة، بإنفاق ما لم يستخدم من المبالغ المخصصة لها. كما تواصل الخدمات البريدية والمحاكم الفدرالية أداء عملها، على الأقل لبعض الوقت. وتظل أغلب الحدائق العامة والمزارات السياحية مفتوحة لاستقبال الزوار.
لكن يتم إغلاق كافة المكاتب والهيئات غير الضرورية وغير المعنية بالصحة، مثل تليفونات المساعدة الخاصة بالضرائب، ومكاتب استخراج جوازات السفر والتأشيرات، وكذلك المكاتب الفدرالية المختصة بالموافقات على الرهن العقاري.
كما ستتوقف بعض برامج التنمية الريفية والمنح الحکومية، وسيتم إغلاق أغلب المباني الاتحادية، بينما يتم الإبقاء على المواقع الإلكترونية لتلك الجهات الحكومية كما هي، ولكن بلا تحديث.
وعلى الرغم من قسوة فكرة إغلاق الحكومة، خاصة على المستفيدين من الجهات التي يتم إغلاقها، أو من هم لديهم ارتباطات أو التزامات يتضررون بسببها من هذا التوقف، فإن مبدأ عدم السماح للحكومة بالإنفاق غير المحدود، ووفقاً لرؤيتها وحدها، هو فكرة جميلة جداً، لم نسمع بها في وطننا العربي.
ويلاحظ هنا، أن ذلك يحدث في وقتٍ يسيطر فيه الرئيس ترامب وحزبه الجمهوري على الكونغرس بمجلسيه، بالإضافة بالطبع إلى البيت الأبيض.
ورغم تمتع الحزب الجمهوري بأغلبية في كل من مجلس النواب ومجلس الشيوخ، بالإضافة إلى مساندة الرئيس، إلا أن ذلك لم يسمح لهم باتخاذ قرارات الإنفاق الحكومي وحدهم، وكان أقصى ما استطاعوا عمله هو ترك رسالة صوتية على تليفون البيت الأبيض بعد إغلاق الحكومة تقول، إنهم لا يمكنهم الرد على الاستفسارات بسبب تعنت أعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي في توفير التمويل اللازم للإنفاق الحكومي، بما فيه التمويل المطلوب لاعتبارات الأمن القومي.
لم يلجأ ترامب وحزبه إلى إيجاد كيانات فارغة، تحمل أسماء عاطفية، يدفع بها في انتخابات الكونغرس. لم يشكل ترامب "ائتلاف دعم أميركا" للترويج لما يرغب في إقراره من قوانين، ولم ينشئ صندوق "تحيا أميركا" لجمع التبرعات، طواعية أو بلي الذراع، من أجل توفير التمويل اللازم لمشروعاته، ولم ينصب نفسه المتصرف الوحيد في حساب لجمع ملايين الجنيهات من أفراد الشعب.
لم يفرض ترامب وحزبه الجمهوري مشروعه للإصلاح الضريبي على الجميع، ولم ينجح في تمريره داخل الكونغرس إلا بعد إجراء التعديلات التي طلبها الديمقراطيون.
لم يستطع ترامب، حتى الآن، توفير التمويل المطلوب لزيادة الإنفاق العسكري، ولا لبناء السور على الحدود مع المكسيك، وعلى الأرجح لن يستطيع ذلك حتى يقدم تنازلات للديمقراطيين في ما يتعلق ببعض قوانين الهجرة التي يتمسكون بها.
لم يقل لهم ترامب "مش عايز كلام في الموضوع ده تاني"، ولا "ماتسمعوش حد غيري"، فالرجل رغم طيشه وقلة خبرته بالسياسة، إلا أنه يعرف أن الأمر لا يستقيم أبداً بهذه الطريقة. وأن المشاركة ضرورية لمصلحة الوطن، وأن الرئيس العاقل لا يمكنه بأي حال الانفراد بالقرارات، دون مراجع أو محاسب.
لم يحاول ترامب خداع شعبه بقوله لهم إنهم "نور عينيه"، ولم يهتف "تحيا أميركا" ثلاث مرات طوال عامٍ كامل قضاه في البيت الأبيض.
لم يفعل ترامب أيّاً من تلك الأفعال، ولا فعلها قبله أي من الرؤساء أو الملوك العقلاء في عصرنا الحديث، ولا حتى في القرون الأولى.
ألم يأت عزيز مصر بيوسف عليه السلام على خزائن الأرض في السنوات العجاف؟ ألم تستشر بلقيس ملكة سبأ كبار قومها قبل الرد على سليمان عليه السلام، مع أنها كانت تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم؟ ومع ذلك يصر بعضهم على ألا يرينا إلا ما يرى، ويطمع أن ينجو بفعلته تلك! فله أقول.. هيهات هيهات.