عن أزمة التعليم في تونس

18 فبراير 2019

طلاب يحتجون في تونس العاصمة على إضراب المعلمين (28/1/2019/الأناضول)

+ الخط -
تعتبر المؤسّسة التعليمية في تونس مصعدا اجتماعيا مهمّا، وفضاء مدنيّا حيويّا، اضطلع، عقودا، بمهامّ تربية الأجيال الصّاعدة، وتخريج ذوي الكفاءة، والتمكين لمجتمع المعرفة في سياق تونسي. والمتابع للشأن التربوي بعد الثورة يتبيّن أنّ قطاع التعليم في تونس، بمراحله المختلفة، الابتدائية والثانوية والجامعية، يشهد حالةً من الارتباك والتوتّر. جلّى ذلك تواتر احتجاجات الجامعيين والمربّين، وانخراط الطرف النقابي في مواجهةٍ مستدامةٍ مع وزارة الإشراف، بلغت درجة الإضراب والاعتصام حينا، ومقاطعة الامتحانات والإحجام عن تسليم الأعداد حينا آخر. وبدا طلبة العلم ضحيّة ذلك التنازع بين الطرفين، فهم يفقدون، في كلّ موسم احتجاجي، حقّهم في التعلّم والمتابعة والتقييم مُددا متفاوتة. والواقع أنّ أزمة التعليم في تونس بنيوية/ مركّبة، يُمكن تلخيصها في ثلاث مسائل بارزة، تتعلّق الأولى بتدهور الوضع المهني/ المادّي للمربّي، والثانية بسوء البنية التحتية/ اللوجيستية للمؤسّسة التعليميّة، والثالثة بعدم إصلاح نظام التدريس ومحامله المعرفية.
يعاني أصحاب السترات البيضاء، شأن معظم التونسيين، ويلات ارتفاع الأسعار، وشيوع الاحتكار، وكثرة الضرائب، وانزلاق الدينار، وانحسار الطبقة الوسطى، ويكابد المربّي في مختلف المسالك الدراسية من أجل تأمين نفقاته الشخصية وتحقيق الكفاف له ولأفراد أسرته. ولا يتماشى المرتب الذي يتقاضاه المنتمون إلى المؤسسة التعليمية ونسق المعيشة المرتفع، بل أصبح لا يُلبّي حتّى الحاجيات الأساسية اليومية للمربّي من قبيل نفقات الإيجار والتنقل، 
ومصاريف اقتناء المراجع ولوازم التدريس، وغير ذلك كثير. ويؤثّر تدهور المقدرة الشرائية للمربّين، وعدم انسجام سلّم التأجير مع تكاليف الحياة اليوميّة على أداء المربّي الذي يجد نفسه غير قادرٍ على التوفيق بين مشقّة المهنة ومحدودية الأجر ومقتضيات العيش الكريم. ويدفع ذلك عددا مهمّا من المدرّسين إلى القيام بأنشطةٍ مهنيةٍ موازية، من قبيل تقديم دروس خصوصيةٍ والتدريس في مؤسّساتٍ خاصّة، وذلك على خلاف ما ينصّ عليه القانون.
والوضعيّة المهنيّة الهشّة التي يعيشها المربّون عموما، والمتعاقدون والنوّاب خصوصا، تجعلهم لا يشعرون بالطمأنينة، ويخشون المستقبل، وينعكس ذلك سلبا على حالتهم النفسية، وعلى أدائهم البيداغوجي لا محالة. لذلك، تركّزت جلّ المطالب النقابية على ضرورة تحسين الوضع المادّي للمربّي، حتّى يتمكّن من تأمين حاجياته، ويضطلع بدوره في تربية الأجيال الصاعدة على النحو المأمول. وعدم تعاطي وزارة الإشراف (وزارة التربية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي) بالجدّيّة الكافية والواقعية اللازمة مع هذا المطلب يزيد من تأزيم العلاقة بين الطرف النقابي والحكومة من ناحية، ويجعل جمهور المربّين لا يثقون في عدالة النظام الحاكم من ناحية أخرى.
ويتمثل الوجه الآخر لأزمة التعليم في تونس في ضعف البنى التحتية للمؤسّسة التربوية، ومحدودية الوسائل اللوجيستية المساعدة لعمل المربّي، فأغلب المنشآت التعليمية تعاني من نقص الصيانة والتهيئة، ومن اكتظاظ الفصول، وغياب نوادي التنشيط والترفيه، وقلّة الوسائل الإيضاحية والتجهيزات المخبرية، والأدوات البيداغوجية العصرية، فضلا عن ندرة وسائل التكييف والتدفئة، بل إنّ مدارس ومعاهد في المناطق الداخلية والطرفية تَهرَّم بناؤها المعماري، وتفتقر لأبسط المرافق الضرورية (فضاء الطعام، الماء الصالح للشرب، الصرف الصحّي...)، ويجد المتعلّمون والمعلّمون صعوبةً في الوصول إليها بسبب المسالك الوعرة وغير المهيّأة، وبسبب قلّة وسائل النقل العمومي المؤدّية إليها. وعلى الرغم من أهمّية المبالغ المالية المرصودة لتجهيز المؤسّسات التعليمية وتجديدها، فإنّ جهود الإصلاح في هذا المجال بطيئة، ويعتريها تسويفٌ كثير، والبيروقراطية وسوء التصرّف. ومعلوم أنّ تدهور البنية التحتية ومتعلّقاتها يؤثّر سلبا على مردودية المدرّس وعلى قابلية التلميذ/ الطالب للتعلّم، ويدفع كثيرين إلى الانقطاع عن الدراسة، فيما يترك آخرون مقاعد التعليم العمومي، ويتجهون نحو مواصلة مشوارهم الدراسي في مؤسّسات خاصّة، طمعا في نتائج أفضل، وفي ظروفٍ تعليميّة أحسن. لذلك، الحاجة أكيدة إلى تطوير الوسائل التدريبية، والبنى التحتية للمؤسسات التعليمية، حتّى يمارس المدرّس دوره التثقيفي/ التربوي في تمام النجاعة، وحتّى لا يفقد المواطنون ثقتهم في التعليم العمومي.
تتمثل الحلقة الثالثة لأزمة المنظومة التعليميّة في تونس في تعثّر مشاريع إصلاح النظام
 الدراسي بعد الثورة، فعلى الرغم من كثرة المبادرات الصادرة عن منظمات المجتمع المدني وعن الطرف النقابي في هذا الخصوص، فإنّ مشروع الإصلاح التربوي ما زال يراوح مكانه، ولم يبذل الطرف الحكومي جهدا معتبرا لبلورة استراتيجية وطنية شاملة، لتجديد المنظومة التربوية، وإشراك كلّ الأطراف في هذا الخصوص. ونتيجة ذلك، غلبت على المشهد التعليمي برامج قديمة، ومناهج تقليدية، وتزايد الميل إلى تكثيف المعارف النظرية، وتجميع المعلومات على حساب إكساب المتعلّمين مهاراتٍ تطبيقيّةً تؤهّلهم للحياة المهنيّة. كما ظلّ تكثير الكتب والكرّاسات، واللوازم المدرسية، وتشتيت الزمن الدراسي هواجس تؤرّق مكوّنات الأسرة التربوية. ولم يتمّ بعد تأهيل مربّين كثيرين ليواكبوا مستجدّات التجديد التربوي، وتطوّرات العمليّة التعلّمية في الدّول المتقدّمة، حتّى أنّ كثيرين ما زالوا يعتمدون التلقين والإملاء نهجا في التدريس. والحال أنّ المتعلّم أحوج إلى التمكّن من أسباب التحليل والحجاج، وتقنيات الترجمة والتواصل، وآليات التفكير النقدي منه إلى تلقّي المعلومات بطريقةٍ تلقينيةٍ إملائيةٍ مملّة.
ولم تستوعب البرامج المعتمدة (خصوصا لمادّتي التاريخ والتربية المدنية) بعد حدث الثورة ومستجدّات الدمقرطة وثقافة حقوق الإنسان المشهودة في البلاد. كما أنّ تدريس الترجمة، بما هي أداة تواصل وتمكين مهني، ما زال باهتا، ويكاد يكون غائبا في معظم المراحل التعليميّة. يُضاف إلى ذلك أنّ استخدام الوسائط الرّقمية في عمليّة التعليم والتعلّم ما زال محدودا في المجال التربوي التونسي، والحال أنّ الحاجة أكيدةٌ إلى بعث بوّاباتٍ رقميّةٍ حيّة، لتأمين التواصل بين الباحثين والدارسين والأولياء والمربين، على نحوٍ يُتيح لهم تبادل الأفكار والمقترحات والمعارف، ويّيسّر للجميع النفاذ إلى المعلومة.
يمكن القول، ختاما، إنّ التعليم العمومي أساس التنمية المستدامة الشاملة، وقوام النهضة الحضارية، وباب النفاذ إلى الحداثة والفعل في مجتمع المعرفة. لذلك، من المهمّ بمكان المحافظة على مجانيّة التعليم العمومي في تونس، والعمل على تطويره وإصلاح ما اعتراه من إخلالات. وذلك ممكنٌ بتحسين الوضع المهني للمدرّسين، وتوفير بيئةٍ مساعدةٍ على التعليم والتعلّم، والعمل على عصرنة مناهج التعليم وبرامجه، لتواكب مستجدّات العصر الرقمي، وتغيّرات تونس الجديدة. وتحقيق تلك المطالب موكولٌ إلى الطرف الحكومي وأهل الاختصاص والفاعلين في المجتمع المدني على السواء.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.