عن "أوسلو" المسمومة
كان اتفاق أوسلو لإعلان المبادئ، منذ يومه الأول، قفزة فلسطينية في الهواء، أشبعناها نقداً من موقع الاعتراض، وكابدنا بسبب ما نكتب، مشقة دفع وشايات التأويل، التي سعت إلى جعل رأينا مؤشراً على التواطؤ مع خصومٍ، أو أوساط مناوئة. كان الشهيد الزعيم أبو عمار، دون سواه، هو الذي يعرف الحقيقة، وفي جلسات خاصة وحميمة، فوجئت بأنه، هو نفسه، غير ذي قناعة بما ذهب إليه، وقد أدهشني ذلك، فعلمت سبب بقائي في موقعي نائباً للسفير في الجزائر آنذاك. لكن الرجل، في الخضم العربي والدولي العسير، كان راكب دراجةٍ لا تتيح لها هندستها الوقوف على عجلتين والسكون. وهذه لها ناموسها، فإن لم تحرك قدميك بقوة لتدوير الدواسات في أي اتجاه، ستسقط معها، ومن يتحاشى السقوط لا تهمه وجهة الاندفاع، لأن له، بعدئذٍ، حديثاً مستفيضاً يتعلق بوجهته الحقيقية.
ضحك أبو عمار عندما اختزلت له مطولات النقد، بتبسيط شديد، للمرة الأولى. وكانت المطولات تشرح وتقول إن كل نقطة من اتفاق إعلان المبادئ تحتاج إلى اتفاق، لن نتوصل إليه مع المحتلين بسهولة، لأن للاتفاق تفسيرين، واحداً رآه المتفائلون التسوويون، وآخر رآه المحتلون، الذين يضمرون تصفية القضية الفلسطينية. بين هذين التفسيرين، وقف ياسر عرفات متأهباً لفرض وقائع على الأرض، وإن استحال عليه فرضها، فلديه الاستعداد للمغامرة و"هدم المعبد" على رؤوس الجميع، مثلما سمعت، شخصياً، منه!
في يوم دخوله إلى غزة (1994/7/3) بدأ أبو عمار محاولته تأسيس واقع آخر، لا يتيحه له الاتفاق. فقد جرت له ترتيبات دخول سلس، من المعبر، منصوص عليها في بروتوكول الإجراءات. اصطحب معه أربعة "ممنوعين" من الدخول، ومن بينهم ناشط مقاوم، يعمل مع وسط إسلامي ضمن "فتح" هو جهاد العمارين (الشهيد فيما بعد)، ظناً منه أن دخولهم سيكون مضموناً بشفاعة موكبه، وهو الموكب الذي رافقه فيه من مطار العريش إلى منفذ رفح، الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، غير أن المحتلين علموا سريعاً بوجود هؤلاء في غزة، فتحركوا عبر القنوات، التي تأسست للتنسيق الأمني، وهدّدوا بإلغاء الاتفاق كله، إن لم يخرج هؤلاء، وهكذا كان!
وسط ضجيج الاتفاق والترحيب العاطفي بما سُمي "العودة إلى الوطن"؛ حيكت كل التدابير والإجراءات، التي تجعل أراضي السلطة سجناً، لا يدخل إليه ولا يخرج منه فلسطيني، إلا بقرار المصالح الأمنية الإسرائيلية. وعلى الرغم من ذلك، جرى على قدم وساق، ضخ إدارات وكوادر منظمة التحرير إلى حظيرة السلطة، وكان المؤشر الموضوعي، الذي يدل عليه هذا السياق أن الأراضي العربية الشاسعة كانت طاردة ضمناً، لا جاذبة، للعنصر الفلسطيني المنتمي إلى الحركة الوطنية. كان الفخ ينسج أسلاكه على وقع طبول الفرح، بما وُصف بأنه انتقال للحركة الوطنية إلى الجغرافيا الفلسطينية!
صحيح أن ياسر عرفات أضمر فكرة هذا الانتقال، لتكون لمسعاه إحدى نتيجتين، انتهاء العملية السلمية بتحقيق هدف الاستقلال والدولة على أراضي 67 وحل قضية اللاجئين، أو الفشل الذي ستكون له ردود أفعال مقاومة، تستحيل مباشرتها من الساحات البعيدة آلاف الأميال. وراهن الرجل، لتحقيق الخيار الأول، على انفتاح خطوط اتصالاته مع العرب والعالم، بعد أن ظلت مغلقة في إثر الاحتلال العراقي للكويت والحرب التي تلته.
سقطت الرهانات، وسُدت المسارب أمام الدراجة الهوائية. فكلما وصلت إلى نقطة، سَمِعَ الراكب، الذي يتحاشى سقوطه الفيزيائي، ما ينم عن اللا حول واللا قوة، أو ينم عن الجفاء. في أميركا اللاتينية، سُمعت عبارات التأييد الكامل، وفي العالم العربي سُمعت عبارات المساندة المذيلة بـ"ولكن"، مرفقة بمنطق اللا حَوْلَ واللا قوة، وكان "أبو عمار" قد قضى مسموماً!