عنوان فحسب... ليكتمل الرّقم المطلوب

04 يناير 2017
+ الخط -

تُعطي العدالةُ «الكلمةَ» لسفّاح غير مُصفّد، يُمسِك سلاحه بيديه الاثنتين، للحديث عن جرائمه، القديمة والحديثة، الأكثر سِرية على الإطلاق.

أرى الآن القاضي يسأله الجلوس على كرسي أماميٍّ داخل القاعة، ويفتح له البوق، وبوليس الاعتقال في القفص، لا ليسرد روايته الخاصة، وإنّما للإدلاء بشهادة فوق العادة.

عادة ما يمتنع السفاحون عن الكلام عن حوادثهم. متواضعون جدا. يفضّلون التّعذيب على قصّ الوقائع ببطولية آلهة اليونان. مهما يحصل، لا يفضحون أنفسهم.

حذرون جدا. اللّحظة، يهمّ سفّاحـ(نا) بقول شيء مهم للغاية: "مكتوب، لا هروب منه". قالها، وتنهّد، وفلق بحافة المنشار طرف المطرقة، ثم غادر المكان.


بقي المتواجدون ينظرون إلى الأجزاء المتناثرة، وقد كنت بينهم، وكان القاضي غائباً تماماً عن وعيه. ما «المكتوب الحتمي»؟ هل مجيء الرّجل إلى هذا العالم مثلنا جميعا؟ ما وشمه جلده من نُدب غائرة قبل مثوله أمام الجمهور والنيابة العامة وهيئة القضاء؟ هل هي الجريمة الجديدة التي أكمل أركانها أمامنا واختفى؟ أم أنّ المكتوب اجتماع «توسّع الرّغبة» مع «تعاظم السّلطة»، عند منصّة الحكم، وقت التقاء الحديد والخشب؟

لا يُمكن التّخمين في الكتابة، أو الكتابة عنها، دون التفكير في ارتباطها بالعالم وفي علاقتها بالجسد. فالمكتوب مُجتَثٌّ للكينونة من داخل اللّغة، بلا لغو، لغةٌ هي «هوية» النص وعلامة وضعه السُرية.


إنّ الشأن البدئي الذي تخوض فيه أيّ كتابة، إذا كانت تخوض في شيء أساساً، هو وجودها ذاته، عبر اشتغالها على الأسلوب باعتباره سلباً – بالأسلحة المتاحة وغير المتاحة، بالأطراف اللّحمية إن اقتضى الأمر- للإمكانيات الوجودية واستنزافها لغويا، سواء كانت شروطا حرفيّة للبقاء أم احتمالات تخييلية للزّوال المتكرّر؛ ولذلك عناصر تقنية مترسّخة في الزمن: اللذة والألم وانمحاءُ الأثر وامتداد الأثير.


الغرابة ليست بين هذه العناصر. على الغرائبيين أن يعلموا ذلك. الغرابة ملح الكتابة، ليس إلاّ، وأنا أحبّ النصوص المسوسة (الخالية من الملح أو المالحة حدّ احتراق الملوحة فيها).


لقد ظهرت موضوعات الجنس والمرض والموت بقوة، في الأدب الحديث والمعاصر، وظهرت معها فضاءات السّرير والمشفى والمقبرة بشكل يدعو للعودة إلى سؤال الكتابة القديم: من له «حقّ» الكلام الأصحّاء أم المعلولون؟


هنالك «كلّ» يكتب ويُمثّل ويتعجّب، كما الجمهور أثناء شهادة السفاح في المحكمة، من خلال ظهوره للعين داخل «مجتمع الفرجة». لكن «لا أحد»، من هؤلاء، يتمثّل إلاّ متى أضحى جثة هامدة.


والكتابة، شيء يغفله الإملائيون، تمثّلٌ لا تمثيل في مواسم الاحتفال بالـ«جمال»، وهذا "الظلم" الذي يُحرّك الملتزمين للدفاع عن «العدل»، ليسا (الجمال والعدل) أكثر من وسيط إشهاري لتدوينات تُنشر وتتوسّع اليوم، ولا تحرّر حتّى نفسها.

يقول هولدرلن، تقريبا، إنّ الشعراء يشيّدون «ما يصمد للبقاء». إذ لا يكفي الكتابة، المفكّرة والشّاعرة، أن تكون ومضة مشعّة تحترق في السّماء البعيدة، بل نيزكا ينخفض مجروحا مثل صقر هالك على الأرض. يسقط، لتراه الكواسر والدواجن. ويحفر الطّين بمخالبه، قبل أن يغمى عليه.

وحده السفاح يعلم أسباب غيبوبة القاضي. والنص غير معنيّ بالرّأي، ولا بالمعنى، بقدر عنايته بعدالته الدّاخلية. كما أنّ محرّكات الكتابة الأصيلة لا تتوقف عند المشاهدة والاستنتاج والحكم وإنّما تبقى حركة غادرة اتجاه الذات، منبعثة من الضّجر اليومي ومن مشادّات حادّة مع النفس الأمّارة بالسّوء.


ليست هنالك كتابة سعيدة يا أصحابي، وإنْ كان العمل الجمالي يجعل الارتقاء البلاغي واللّعب النّحوي عمليات مرحة، لأنّ الأعراض غير فنية، حتى لا نقول مرضية.


إنّ الحرف "فالوس" دافئ، غير مذكّر بالضّرورة، يتأمّل مشهد قردة ترمي الموز للنهر من أعلى التلة. والنّساء هن اليد التي تشدّ القلم وترقن على الآلة وتستأصل الأعضاء أو تُهيّجها؛ إنّهن، خارج الاسترسالات الرومانسية، محرار الألم واللذة.


يتحدث كافكا في رسالة إلى حبيبته عن الكتابة قائلاً: "أقول مع نفسي، يا ميلينا، إنّك لا تفهمين المسألة. حاولي استيعابها بتسميتها مرضاً". كلّ الذين أعرف أعمالهم عن قرب، بمن فيهم نفسي، يبعثون المسوّدات النصية أو البصرية إلى نساء للحصول على تقييمات صامتة. حتّى بعض الكاتبات يراسلن نساء أخريات.


المرأة لا تدهشها الغزوات الأدبية. تسكت بعد كلّ قراءة وتغمز بعينيها. الشّجرة تعلم مسالك النّدى إلى جذور التربة لكنها لا تضحك للحطّابين. كذلك المرأة مع النص.

«الكتابة الخطئية» هي الفشل في تحقيق التوازن لدى الكائن - السلبوت المُقدم على الوجود. لا يمكنك أن تسمع صنائعيا يلعن الصّنعة.


الكتابة صنعة، تعجبني هذه المجازفة التعريفية وهذا الاتزان الحِرفي، أي أنّها لا تقبل شريكة مهنية ولا تؤدي إلى الهزيمة (حَرْفَةْ بُوكْ لَيْغَلبُوكْ). كان والدي صائغ ذهب يكتب على المعادن ويُذيبها في قوالب الأشكال.


أحرقني الشّكل يوما، من فرط وضع الشّدة على الياء، ولهذا سرت نحو العدم النّاعم فاتحاً ذراعيّ، ممتدّا في اللّغة، مائتاً داخلها. أسمع عن كُتّاب لم يرجعوا إلى الكتابة منذ أوّل نص نشروه. وآخرون لم يكتبوا أبداً، وهم بذلك كتاب متوقفون عن التأليف.


في أصل الحكاية. يشربون النبيذ السّاخن ويتابعون أخبار الجوائز ومستجدات «القصّة» الرّابحة. يرسمون بالألوان على الورق المقوّى شعارات المثقف "العضوي" ويشهرونها، بين المركز والهامش، في تظاهرات حاسمة جدا، بفخر وحنين ماي 68.


يشبه هؤلاء بوليس الاعتقال المحتجزين. صدّقوا الأصفاد البرّاقة ونسوا غدر الفولاذ. أمّا الانتحار، وهي قضية مخبرية لا تشريعية في الأدب، فيمكن اعتباره من المعاول الوهمية التي تحفر، بجرعات من الرّاحة المؤلمة، عن الوحدة المنشودة وعن غايات الأشياء المطلقة، مثل الحبّ العذري.


لا أتذكّر ليلة من ليالي "مراهقتي"، النصية والعاطفية، لم أفكّر فيها بالانتحار. الآن، أصبحت أكثر رشدا: أفكّر بالموت فقط. إنّ الكتابة تُجرّب الفناء، وتحرّض عليه، لكّنها لا تقرّ به؛ وبهذا تفترق عن الفلسفة وتلتقي بالشّعر.

فكّرت في إعطاء عنوان لهذه التدوينة، وكان يمكن أن يغدر بي مرة أخرى، لو أنّي سمّيت كلّ ما قلته بـالـ"ورطة"، كان سيأخذ العنوان من عدد الكلمات رقماً واحداً، لا أكثر، لكنّه كان سيورّطني في الثرثرة.


كنت سأتحدث عن الكتابة باعتبارها ورطة. وتلك ورطة لا تُكتب. تطلب منّا الجرائد أن نفكّر في وقت القارئ وانشغاله بارتفاع سعر الحليب وأخطاء صناعة العازل الطبي، إلخ. كلّ هذا لا يهمّني. وأنا أشتغل على النص، يصبح الأهم في هذا التحديد العددي، بعد الانصياع لقانون المطبوع، التفكير في حجم الكلام، في «اقتصاد الكتابة» وليس استهداف فائدة مزعومة.


مجبور على التوقف الآن، أشارف على الألف كلمة، هل قلت كلّ شيء لكي أسكت؟ قد يضيف المُحرّر صورة لي. سأقترح عليه صورة في حديقة ياسمينة بكازابلانكا، أجهش فيها بالبكاء. كان عمري ثلاث سنوات. كم ستأخذ الصورة، وتحتها اسمي الكامل (أيّوب خالٍ من العيوب، سمّتني الأمّ/الخرافة) ونبذة عن نجاحاتي المبرهة في الفشل، من المساحة في جورنال عربي؟


حسناً، جملة أخرى فحسب، ليكتمل الرّقم المطلوب، لن أزيد عن جملة قبل الخروج من هنا. لقد تذكّرتها. تقول العبارة: "المكتوب، لا هروب منه". سأقولها وأتنهّد، وأفلق بحافة المنشار طرف المطرقة، وها أنا أغادر المكان.

 

88AA20B7-D7C4-4F4B-8569-A57F89CDE9B3
88AA20B7-D7C4-4F4B-8569-A57F89CDE9B3
أيوب المزيّن

كاتب ومترجم مغربي، تنقّل بين عواصم عربية وأوروبيّة مسافراً ودارساً، من بوردو إلى بيروت. يعمل حالياً مُفتّشاً فنيّاً ومشرفاً على معارض للفن المعاصر في غاليري بكازابلانكا.يقول: "يا صاحبي، أهرب إلى عزلتك. أراك مصعوقًاً بهرمسة العظماء، ومكدومًاً بنِخاس الصّغراء".

أيوب المزيّن

مدونات أخرى