تتكرر حوادث العنف في لبنان وتختلف أشكالها، لكنّها ليست ذات منشأ واحد بحسب علم الاجتماع، فهناك أسباب عدّة ولو أنّ جميع أشكال العنف تؤشر إلى ضعف لغة التفاهم السلمي بين اللبنانيين.
إشكال حول مولدات كهرباء في مدينة صيدا، جنوب لبنان، يتطور إلى مقتل شخصين بالرصاص وإصابة آخرين وإحراق وتخريب ممتلكات. مباراة كرة قدم في المدينة الرياضية لبيروت تنتهي بنتيجة لا تسرّ مشجعي أحد الفريقين فتتحول إلى فوضى جماهيرية مليئة بالهتافات الطائفية وتكسير مقاعد المدرجات ورميها في كلّ اتجاه. أوامر بإزالة مخالفات تتحول إلى مواجهات بين السكان والقوى الأمنية في إحدى ضواحي العاصمة. نقاش بين طلاب في جامعة خاصة يتحول إلى تضارب وتراشق طائفي - حزبي. اغتصاب فتاة وقتلها في مزيارة (شمال)، ومحاولة اغتصاب أخرى في جونية (وسط). العثور على جثة فتى مصابة بطلق ناري في البقاع الغربي (شرق).
قتل وضرب واغتصاب وتكسير وتخريب وغير ذلك كثير في لبنان، بل إنّ هذا العرض السريع ليس سوى حصيلة الأسبوعين الأخيرين. ومع أنّ العرض لا يغطي كلّ حوادث العنف الحاصلة في البلاد، فهو مؤشر على انتشارها وتنوعها وتعدد أشكالها وأساليبها واختلاف الفئات العمرية للضالعين فيها، ولو أنّ فئة الشباب من الذكور تبقى الأكثر ارتكاباً لمثل هذه الحوادث. المميز دائماً أنّ أيّ إجراءات تجاه مثل هذا المدّ من الحوادث لا يؤدي إلى منعها، وربما تتعامل السلطات مع مثل هذه الحوادث على أنّها أمر اعتيادي في بلاد شهدت ما تعتبره أكبر من ذلك في أعقاب حربها الأهلية التي انتهت عام 1990، من اشتباكات مسلحة وتفجيرات إرهابية واغتيالات واعتداءات صاروخية على المستوى الداخلي وكذلك حروب شنها العدو الإسرائيلي على المستوى الخارجي.
الأسرة والمدرسة
تتعدد التفسيرات حول العنف الأهلي واتخاذه أسلوباً للمواجهة في كثير من الأحيان. وبينما يؤكد الدكتور نجيب نور الدين، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، لـ"العربي الجديد" أنّ هذا النوع من العنف لم يرقَ إلى مستوى الظاهرة، فإنّه يشير في المقابل إلى أنّ "الحالات المتكررة والمنتشرة في كلّ لبنان تجعله يقترب من مستوى الظاهرة" أي السلوك الجمعي لشريحة واسعة من الناس في مجتمع معين.
بالنسبة للفئات العمرية، يبدأ العنف في وقت مبكر، ويلاحظ داخل الأسرة وفي المدرسة. عن ذلك، تقول مديرة مدرسة "رمل الظريف" الحكومية في بيروت غدير غزيري لـ"العربي الجديد": "تتحمل الأسرة الجزء الأكبر من المسؤولية عن العنف الذي قد يتصف به بعض الأولاد وقد يتضاعف هذا السلوك في المدرسة وقد يتقلص. وهذا يتوقف على التوعية التي يعتمدها أعضاء الهيئة التعليمية وإدارات المدارس".
الوجه التربوي يتطرق إليه نور الدين من ضمن أسباب أخرى مولّدة للعنف، إذ يشير إلى أنّه "وليد المجتمع الذي ينشأ فيه، فإذا كان المجتمع يعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية وتربوية فإنّ ذلك يولّد العنف الذي يأخذ منحى القوة والقسوة وفرض الإرادة وممارسة القهر لفرض السيطرة والتأثير على الآخرين".
مكافحة شغب (جوزيف عيد/ فرانس برس) |
الطبقة السياسية
بدوره، يروي أحمد ن. حادثة جرت معه بالذات وتسببت في نتائج خطيرة. يقول إنّ طفله كان يلعب في الزقاق المحاذي لشقتهم السكنية، فضربه طفل أكبر منه، ليبادر إبنا شقيق أحمد إلى ضرب ذلك الطفل الذي استدعى والده فجلب عصا كبيرة وضرب بها جميع الأطفال الذين أصيب أحدهم بجرح في رأسه. تطور الإشكال مع اشتراك الكبار وضرب أحمد ذلك الرجل، بل وجلب عناصر مسلحة من عشيرته حاصروا الشقة وأطلقوا النار على الجدران قبل أن يأتي الدرك (الشرطة). وبين شكوى وشكوى مضادة لم يفعل الدرك شيئاً ولم يوقفوا أحداً من مطلقي النار، وبقي التوتر في الحيّ طويلاً ترافق مع تهديدات مستمرة تجاه أحمد وعائلته.
يقول أحمد لـ"العربي الجديد": "على الرغم من أنّ الدولة لم تعطني حقي، ولم تتمكن من حمايتي فالعدالة السماوية تكفلت بذلك". يشرح: "المعتدي قتل بعد عامين على يد الدرك بالذات عندما لم يمتثل لأوامر حاجز بالوقوف، وكان يحمل في سيارته سلاحاً ينوي تهريبه إلى جهة ما".
يفسر نور الدين أنّ أشكال العنف متعددة فمنها ما هو من فرد تجاه فرد، ومن طبقة تجاه طبقة، ومن مجتمع تجاه مجتمع، وفي الحالة الأخيرة التي تميز لبنان وهي المجتمع الطوائفي، فإنّ الإشكالات والعنف المستخدم فيها على هذا المستوى قد تشير إلى انعدام الثقة بين الطوائف. لكنّ نور الدين لا يغفل عن دور الطبقة السياسية في ذلك: "هي المحرك في المجتمع اللبناني، فإذا كانت العلاقة متأزمة بين أقطابها ولا تتبع الحوار والأساليب الديمقراطية الفعالة أقدمت على تحريك الفرقاء على الأرض لخلق نوع من التوتر الأمني بغية الدفع إلى طاولة مفاوضات لم يمكن الوصول إليها بطرق سلمية". وليست الطبقة السياسية وحدها مسؤولة عن ذلك بل أيضاً "القضاء وعدم استقلاليته ومنحه أحكاماً مخففة عن العنف ضد المرأة والطفل مثلاً". يعلّق: "غياب العقوبة الصارمة يسمح باستسهال ارتكاب العنف".
عقل جمعي
ومع الحديث عن المحركات الطائفية، استرعت الانتباه مباراة فريق النجمة أمام فريق الأنصار في الدوري اللبناني لكرة القدم الأسبوع الماضي التي خسرها الفريق الأول بنتيجة 1- 5، ما أدى إلى موجة غضب في صفوف جمهوره دفعته إلى اقتلاع عدد من المقاعد البلاستيكية في أكبر ملعب في لبنان، ورميها في اتجاه أرض الملعب من دون أن ينجح عناصر قوات مكافحة الشغب في منعهم عن ذلك بالرغم من استخدام قنابل الغاز. وقد استبق الجمهوران ذلك بكثير من الهتافات الطائفية.
في خصوص هذه الحادثة بالذات، يقول نور الدين إنّ التحدي الحاصل بين الفرق اللبنانية خصوصاً ذات الجماهيرية الكبيرة يتخذ منحى طائفياً، لأنّ تلك الجماهير تحسب الفريق على طائفة معينة، وبذلك تشجع الفريق "نصرة للطائفة، وبالنظر إلى أنّ ردود الفعل تجاه الهزيمة غير متوازنة عادة، فكيف إذا ما كانت الخسارة كبيرة؟". هنا ينتقل إلى تحديد الفارق ما بين ممارسة فردية للعنف وممارسة جماعية: "عندما يكون الفرد في جماعة يشعر بتضافر معه يجعل قوته مضاعفة. والعنف الجماعي أخطر بسبب نشوء عقل جمعي لتحقيق الأهداف التي تتجاوز الفرد بشكل أسرع وأكثر عنفاً".
وعن خروج العنف عن الدائرة الفردية إلى الجماعية يشير نور الدين إلى "نشوء طبقة أحياناً من الأفراد المتشابهين تهدف إلى تحقيق غايات معينة. ومن ذلك العنف الليّن الذي تستخدمه تحركات المجتمع المدني لتحقيق غايات سياسية يجتمع أفرادها تحت شعار الموقف من السلطة السياسية التي تعتبرها فاسدة".
كذلك، يتحدث نور الدين عن المحرك الاقتصادي للعنف، ومن تجلياته البطالة: "يمكن أن يكون العاطلون من العمل أكثر عنفاً كونهم يشعرون برفض وعداء المجتمع لهم، فهو لا يؤمّن لهم فرص العمل ولا يلبي احتياجاتهم المادية التي تحقق نوعاً من التوازن في حياتهم. هم يعتبرون أن المجتمع يمارس العدوانية والعزل تجاههم ويعبّرون عن شعورهم هذا بالعنف".
دور الأحزاب
بالحديث عن نوع من الحلول المقترحة للحدّ من العنف المدرسي والسيطرة عليه، تشير غزيري إلى أنّ "المطلوب الحثّ على التسامح والتواصل بين التلاميذ وزيادة النشاطات التعاونية بينهم، وتنظيم ندوات لتبيان مساوئ العنف، وتفعيل دور أولياء الأمور والإرشاد الاجتماعي".
أما على مستوى المجتمع الأكبر والعنف المنتشر فيه، فيعرض نور الدين عدة عناوين تبدأ من الأسرة وضرورة تأمين التوازن النفسي- الاجتماعي والأمان بمختلف أشكاله للأفراد فيها. وتمتد إلى المدرسة وضرورة تحقيق التلميذ الإشباع العلمي والنفسي - الاجتماعي فيها. وفي حالة العنف الجماعي المنظم، لا بدّ، على المستوى اللبناني والوضعية الخاصة التي يتخذها المجتمع بانتماءاته الحزبية والطائفية المتعددة، من "تولّي الأحزاب تربية الشباب على الانخراط في الحياة السياسية السلمية. ويجب أن تعمل الطبقة السياسية على التخفيف من حدّة خطابها، فالعنف ليس مادياً فقط بل معنويا أيضاً ينعكس في توتير الأجواء على الأرض".
وفي ذلك يخلص نور الدين إلى أنّ المطلوب من أجل تخفيف حدّة العنف في لبنان بشكل عام هو "توفير الأجواء للدخول في العملية السياسية التي تنظم الخلافات بالوسائل الديمقراطية التي تؤمّنها مؤسسات الدولة".