عنف العولمة والعنف المضاد
يرتبط ذكر العولمة في الإعلام الغربي، وحتى في بعض الكتابات العربية، بطابع دعائي، يؤكد أنها نتيجة "حتمية" للتطور البشري، وتعزز من حرية انتقال البضائع ورؤوس الأموال، عبر نشاط الشركات متعددة الجنسيات، وحرية انتقال المعلومات والأفكار، عبر وسائل الاتصال الحديثة، لكن هذه الدعاية لا تجيب عن أسئلة مهمة في هذا الإطار: هل هناك تبادل متكافئ بين الأمم والشعوب؟ ومن الذي يهيمن على حركة البضائع والسلع ويتحكم في تدفق المعلومات؟ ليست العولمة مجرد تطور طبيعي للآليات الرأسمالية، وإنما هي أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم، حيث يتحكم الغرب بشكل مركزي بالسوق، ويعيد صياغة قيم العالم، ويؤكد على وجود ثقافة عالمية، هي، في الحقيقة، ثقافة محددة، يتم ترويجها ضد كل الثقافات المختلفة و"المتخلفة" في هذا العالم، وتذويب كل الهويات وصهرها داخل هذه الهوية المعولمة.
يفترض ترويج العولمة وجود إنسان "طبيعي"، بلا هوية ولا خصوصية ثقافية، يمكنه أن يندمج، ببساطة، داخل هوية معولمة، فهو لا يكترث للارتباط بالأرض أو الثقافة. وهكذا، يمكن تذويبه ضمن ثقافةٍ، يتم افتراض تفوقها على باقي الثقافات، واستحقاقها للهيمنة العالمية، وهي، هنا، نمط ثقافي محدد، نطلق عليه تسمية الثقافة الغربية، لكنها، في الحقيقة، الثقافة الأميركية المعبرة عن نمط الحياة الأميركي، والتي تفرض نفسها بالنزوع الأميركي نحو الهيمنة السياسية والاقتصادية على العالم.
كان المفكر الفرنسي، جان بودريار، أحد الناشطين في الحركة المناهضة للعولمة، وقد تنبه إلى حجم العنف الذي تمارسه العولمة، عبر الهيمنة الاقتصادية والثقافية، من خلال سعي العولمة إلى محاربة كل أشكال الاختلاف، وظهور ثقافة عالمية، لا تمايز فيها بين الثقافات، ومطاردة كل تفرد أو تميز ثقافي، وعدم السماح حتى بالموت، تعبيراً عن الاختلاف، وبحسب بوديار، يعمل عنف العولمة من أجل جعل العالم متحرراً من كل نظام طبيعي، سواء تعلق الأمر بالجسد، أو بالولادة، أو بالموت.
تتضمن العولمة، كما يشير وجيه كوثراني، "فرضاً لأنماط من الثقافة والعلاقات الاجتماعية، وفتح سوقٍ وتوجيهه بأشكالٍ من السياسات والولاءات، لمصلحة شركات مالية عملاقة، غالباً ما تكون ذات قواعد قومية"، وهذه العولمة الرأسمالية تمارس عنفاً متعدد الأشكال، كما يمكن أن نلاحظ، فهي تضر بسيادة الدول واقتصادياتها وثقافتها وأنماط حياة مجتمعاتها، وتعزز إفقار الدول النامية، ومع القهر الاقتصادي هناك هيمنة ثقافية، وتحكم في تدفق المعلومات، وإعادة صياغة للقيم، من خلال الآلة الإعلامية الضخمة، وبعد هذا كله، هناك القوة العسكرية التي يتم التلويح بها، أو استخدامها ضد المارقين، الذين يرفضون الانصياع.
لم تنتصر العولمة الرأسمالية، كما يؤكد جان بوديار، فقد نشأت أشكال من المقاومة ضد القوة الداعية إلى التجانس والذوبان، وهي مقاومة ترفض الانصهار ضمن ثقافة واحدة مهيمنة، لا تمايز فيها، ولا ترفض فقط البنية التكنولوجية والاقتصادية للعولمة، بل ترفض البنية العقلية التي تعمل على تحطيم اختلاف الثقافات وتذويبها، والأمر لا يتعلق بصراع الحضارات، بل بمواجهة أنثروبولوجية، بين ثقافة عالمية لا تمايز فيها، وكل شيء آخر يختلف عنها. يؤمن بوديار بأن أنواع الخصوصيات الثقافية هي ما يمكن أن يواجه العولمة، وليست هذه الخصوصيات سلبية أو إيجابية، لكنها ذات طبيعة مختلفة عن تثبيت ثقافة واحدة مهيمنة، ولهذه الخصوصيات إنتاجات مختلفة، منها ما هو "لطيف"، مثل الفنون وأنواع المنتوجات الثقافية، ومنها ما هو عنيف، مثل أعمال العنف السياسي الموسومة بالإرهاب، وهي تمثل انتقام الخصوصيات الثقافية من محاولات محوها، والعمل على إحياء الهوية، للحفاظ على الاختلاف والمغايرة.
لا يلتفت كثيرون ممن يهتمون بتحليل أعمال العنف، وعزوها إلى إشكالات ثقافية ودينية، إلى ما يمكن أن تصنعه أزمات الهوية، فهم لا يتنبهون إلى العنف الكامن في العولمة الرأسمالية، ولا لما يسميه الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، انقطاع التواصل، بين الرابحين والخاسرين في المنظومة العالمية الرأسمالية، ما يؤدي إلى حنقٍ عند الخاسرين، يتمظهر في عنف مضاد، يرفض الهيمنة، متخذاً شكلاً دينياً. عنف العولمة وصلفها، وما تنتجه من أزمات هوية حادة، بالإصرار على فرض قيم ثقافية خاصة بثقافة محددة، واعتبارها قيماً عالمية، أحد أهم العوامل المغذية للتنظيمات الأممية التي تمارس العنف، مثل تنظيم داعش، ومن المهم الالتفات إلى هذا العامل في تفسير تدفق المقاتلين من كل أنحاء العالم إلى هذا التنظيم، وخصوصاً من أوروبا، حيث أزمات الهوية، وتعثر نموذج التعددية الثقافية، وفشل إدماج المسلمين في البلدان الأوروبية، وما أنتجه من صعود التيارات اليمينية، وتأثيرات العولمة، كلها عوامل تبدو آثارها على من يختار من الأوروبيين، الانضمام إلى داعش، ولعل في حوادث فرنسا الأخيرة شواهد على هذا الأمر.
قد ينتج عنف العولمة عنفاً مضاداً يستحق الشجب والرفض، مثل عنف داعش، لأنه لا يعبر عن الشكل المناسب لمواجهة هذا العنف، ويضر بضحايا عنف العولمة أكثر من إضراره بالساعين إلى الهيمنة، غير أن تفسير ظهوره يرتبط بشكل وثيق بعنف العولمة نفسها، والسعي إلى فرض أشكال متعددة من الهيمنة على هذا العالم.